الكون بما فيه ومن فيه، فيض من قدرة الله تعالى وإرادته، وآية دالة على رحمته سبحانه وكرمه لمخلوقاته التي سخرها للإنسان، ونظام الكون قائم على سنة الحركة والنمو، وأساس ديناميكية الحياة منحصر في التغير، وإذا غاب ذلك عن أذهان الأسرة والمجتمع ماتت الحياة إلى الأبد وبموتها تموت البراعم الصاعدة، ويصبح الجميع أثرا من بقايا الماضي، وهكذا تجد الأسر وشبابها أن الذين يعملون في الظلام ويحركون عجلة الفساد من تحت السطح لتظل الأجيال تدور في دوامة لا تنتهي إلى رأي سديد، يتملكها الخوف من المجهول، وهي لا تدرك حجم الفساد، ونظرا لفداحة الكارثة التي تلاحق الأسر وشبابها سعيا لخلخلة بنيان المجتمع في دأب وإصرار.. ووقف هذا الوبال الذي تدفع الأجيال الحاضرة والمستقبلية ثمنا باهضا وضعه دعاة التفاهات حبائل بفكر ضال لإفشال كل مجهود، وترويج أهداف مغرضة تستهدف شباب الأمة، فالدولة والأسرة قبلها ومع الجميع العلماء وأئمة المساجد، والإعلام بكل آلياته، مطالبون بتأصيل ثقافة الإسلام العلمية، وآدابه السمحة وأخلاقه في وجدان الشباب، والإسلام وضح السبيل للانطلاق من ساحته الواسعة بما يحقق النافع ويبعد الفاسد، وينتقل من النافع إلى الأنفع، ومن الصالح إلى الأصلح لبناء حصون قوية من التلازم المفقود؛ لأن الأمة الحية الحريصة على أداء واجبها نحو شبابها هي الأمة الناجحة، تتعقب الباطل وتحاصره وتنتقل بأبنائها وبناتها من خير إلى خير قال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [البقرة، 142]. والعلم ميراث مشترك بين الإنسانية جمعاء، وهو ميراث عظيم وعزيز، لا يفرط فيه إلا أبله معتوه، ومجالاته متعددة تتقاسمه الهمم لتعلي به صرح الأمة شامخا، إذ بالعلم تتحقق رسالة نفع العباد وهدايتهم إلى طريق الهدى والرشاد، والله سبحانه بدأ كتابه الكريم بالدعوة إلى العلم لأنه يريد أن يلفت نظر أوليائه إليه، ليكسبوا من وراء ذلك عزة الربانيين وكرامة المقربين، وثمار العلم هي المعرفة والمعرفة هي التي تمكن الشباب من إدراك حقيقة هذه الوجود، وجلال المعرفة يدل على جمال المعبود، وغنائم العالم أكبر، وشأنه أعظم، وشتان بين هيبة عالم زانها التواضع، وهيبة سافل جاهل يشينها الغرور والاستكبار، قال تعالى: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لا يَعْلَمُونَ" [الزمر، 10]. والعلم هو الذي يحيي موات قلوب أبناء وبنات الأمة ويعلي من هممهم ليجابهوا بها مشاكل الدنيا وهمومها، فعلى الأسر في هذا العصر أن يقتفوا أثر الدرب الذي سار عليه السلف الصالح، وأن يعلموا أن لا عزة بلا علم، وكل أسرة لم تقم بدورها نحو أولادها، فقد خذلت الأمة، وتخلت طوعا أو كرها عن مهمتها، وهل من حق المسلم أن يستسلم لليأس، وأن يقف عاجزا أمام تحديات العصر، إن واجبه يفرض عليه أن يبقى متشبثا ببارقة أمل لينتصر على أحزان الأمية والجهل لتسير الحياة مشرقة نابضة بحيوية العلم والمعرفة، تقطر عبقا كما يقطر الندى والعنبر للخروج من حيرة الجهل وضلال الأمية والتحليق في سماء المعرفة للقطف من ثمارها بما ينبئ بسعة اطلاع وعمق نظرة الشباب ونفاذها قال تعالى: "إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" [يوسف، 87]. وكل أسرة عليها بادئ ذي بدء تمجيد العلم وأهله، وأن تعرف أن النبوغ لا يكون عبثا، فالدنيا ليست كما يتوهم العابثون قائمة على العبثية، ورحم الله الشيخ المختار السوسي إذ يقول في كتابه المعسول في الجزء الثالث صفحة 39 وهو يحكي عن أمه رحمة الله عليها: "كان كل أملها أن تراني يوما ما ممن تطلعوا من تلك الثنية، وممن يداعبون الأقلام ويناغون الدفاتر" والعلماء شعورهم بالتبعة الملقاة على عاتقهم إزاء مجتمعاتهم وما ورثهم الله من العلم، هم خير من يصنع الصورة المثلى للحياة ناهيك بما يصاحب ذلك من عناء ومشقة لذلك تجد العالم ملزما بالدفاع عن الحق، ولقد جاء في كتاب "كليلة ودمنة" لبيدبا الفيلسوف ما معناه: "أن الأقوياء لهم سورة كسورة الشراب لا يفيقون منها إلا بمواعظ العلماء وأدب الحكماء". وحياة أولي العلم كثيرا ما تكون محفوفة بالمشقات والمتاعب، والعالم كلما سمت مكانته ازداد مقدار ما يواجهه من مصاعب ولقد صدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" رواه الإمام أحمد في مسنده، ولقد قال شاعر عالم: وقائلة لم عرتك الهموم وأمرك ممتثل في الأمم؟ فقلت ذريني على حالتي فإن الهموم بقدر الهمم وأشد ما يبتلى به العالم هي حيرته بين علمه وعمله، يوم يعسر عليه التطبيق العملي لما يتعلمه. وهذه الحضارة المتطورة في عالمنا المعاصر التي بها يتحكم الأقوياء في رقاب البشرية شرقا وغربا لو أن العلماء المسلمين استسلموا في العصور الوسطى للمحن التي كانت تجابههم وتلاحقهم وهم يترجمون علوم الإغريق والفرس والهنود، وقد بعثوا فيما ترجموه الحياة والموت يتعقبهم، ولقد استطاعوا أن ينتصروا للعلم ومزجه مزجا محكما رائعا بما يخدم الإسلام والإنسانية، بما يلائم شريعة التوحيد مع إبداعات وابتكارات كانت الصوى وفهم استيعاب علوم الأمم ولقد صدق الله العظيم إذ يقول: "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ" [يونس، 101]. وللشباب أقول: العلم بحر محيط مهما نهل الناس منه فلا يعرفون إلا وشلا يبل ريقهم ولا يطفئ ظمأهم ولا يروي أنفسهم العطشى، وأول ما يجب على العالم الشاب المثقف أن ينفع نفسه أولا وأسرته ثانيا وأمته ثالثا ثم الإنسانية رابعا، وإلا كان كطبيب يداوي الناس وهو عليل، والعالم الشاب الذي يمزج بين العلم والإيمان رأسه كالسماء تشع نورا وتنزل غيثا، والأرض تتفجر عيونا وكنوزا وصدق الله العظيم إذ يقول: "وَقل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا" [طه، 114]. إن العلماء ورجال الفكر الإسلامي عليهم ألا يتركوا أمر العلم والدعوة إلى الله مستباحا لكل جاهل أن يفتي برأيه الأعمى ويطرح ما يشاء من خزعبلات، لتظل حركة العلم والتنوير متجمدة مما سهل للأفكار المسمومة من نظريات التحلل والفوضى أن تتسلل كالأفاعي بألوانها وأشكالها المرعبة لتفسد حياة الناس قال تعالى: "لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ اَوْ اَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" [ق، 37]، وهذا أمر أحدث كثيرا من الفتن التي يحصد المسلمون الآن نتائجها ونحن اليوم في زمن لا مكان فيه للضعفاء والمترددين والجاهلين، هذا شباب علينا أن نحوطه بأكرم ما توصلت إليه الإنسانية من تقدم علمي وتقني ومعرفي مما يعبر عن حبنا له، والوفاء للأجيال التي ستتسلم منا الأمانة في مستقبل الأيام، وخير ما نتمناه للشباب العالم إناثا وذكرانا أن يرسوا منهجا وشكلا جديدا للعلم والبحث العلمي حتى تخرج الأمة من النفق الذي حبسها فيه المتعالمون في سياق السجال الطويل العقيم، إذا أردنا خلق حساسية علمية بمنظور جديد يقترب من الحياة الحافلة بالعطاء ، وأن لا نتركهم وحيدين عزلا في مواجهة التحديات لأنهم أكبادنا التي تكابد من أجل نصرة الحق والعلم والإيمان، وبما يثري حياة الفرد والمجتمع، ويرتقي بالوجود الإنساني بشكل عام والله الهادي إلى سواء السبيل.