الحمد لله الذي أكرمنا بخير نبي اصطفاه، فكنا به خير أمة أخرجت للناس، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وآله وصحبه. وبعد، قال الله تباركت أسماؤه: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ اَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" [الاَحزاب، 40]. إن من فرائض الدين وأركانه: معرفة قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيم شأنه، ومعرفة الخصائص الثابتة له في نفسه، والإيمان به والاهتداء بالنور الذي أنزل معه، ومعرفة حسن آثاره في دين الله عز وجل. فمن الخصائص التي انفرد بها عن الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام: الشفاعة والوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، والبراق والمعراج، والصلاة بالأنبياء تلك الليلة، وإعطاء جوامع الكلم، وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، والبعث إلى كافة الناس، وتحليل الغنائم، والنصر بالرعب مسيرة شهر، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، وختم به النبيون، قال الله تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا" [الاَعراف، 158]، وقال: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [سبأ، 28]. وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجدا،ً وأرسلت إلى الخلق كافة،ً وختم بي النبيون". وفيهما أيضا من رواية جابر: "أعطيت خمسا، ولا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل قبلي، ونصرت بالرعب، فهو يسير أمامي شهرا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة". وفي صحيح مسلم وتفرد به عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء"، يشير بذلك إلى اختصاصه بالتيمم، ولم تكن هذه الطهارة الترابية للأنبياء قبله، واليهود يصلون حيث أدركتهم الصلاة بعد إصابتهم من الماء إلا فرقة منهم يقال لهم "العنانية" فإنهم لا يصلون إلا في كنيسة لهم. وهناك خصلة لم يذكرها مسلم، وأوردها أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده: ".. وأوتيت هؤلاء الآيات من بيت كنز تحت العرش من آخر سورة البقرة، لم يعط أحد منه كان قبلي، ولا يعطى أحد منه كان بعدي". فهذه بعض خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم المخصوص في اليوم المشهود بالمقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود صلى الله عليه وسلم، لا ينقطع دوامها، فلقد كرمه الله وشرفه بفضائل صح عند النبيين إعظامها، ولاحت شمس وضوحها في سماء الإسلام، وكانت شريعته كالتاج لسائر شرائع الأنبياء. جعلنا الله فيمن تمسك بهداه، وبلغ في حبه أقصى مداه، وأخذ بسنته الحسنة المآخذ، وعض عليها بالنواجذ، وأوردنا حوضه المفعم يوم الميعاد. آمين والحمد لله رب العالمين. ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم ما خصه الله تعالى به من الشفاعة، وأنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا شفع فيه، واعلموا أيها الأفاضل أن الشفاعة على ضروب أربعة: أولها وأعمها: شفاعة الموقف التي اختص بها سيد المرسلين وخاتم النبيين، وهو تخليص الناس من الكرب في انتظار القضاء يوم الفصل، وهذه الخصيصة هي المقام المحمود الذي وعده ربه الله تعالى، في قوله عز وجل: "وَمِنَ اَلليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" [الاِسراء، 79]. وقد أجمع أهل العلم على أن المقام المحمود هو شفاعته صلى الله عليه وسلم لأمته، فتنال شفاعته جميع من بالموقف من سكان الأرض. والدليل عليه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحملون، فيقول بعض الناس لبعض ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟.. "، ذكر فيه طلبهم للشفاعة لما نالهم من الكرب والغم، وقصدهم نبيا بعد نبي حتى يأتوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم، فهذه هي الشفاعة الأولى عامة لجميع الخلائق في الفصل بينهم، لكنه فاز بمطلوبها المطيعون وخسر هنالك المبطلون؛ أما الثانية فخاصة بفضلاء المؤمنين في الموقف، وإدخال قوم بغير حساب، وتعجيلهم إلى منازلهم، فيقال: "يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من باب الأيمن من أبواب الجنة، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى"، وهذا حديث ثابت صحيح؛ أما الثالثة: فلقوم استوجبوا النار بقبيح فعالهم، فيشفع فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يدخلوا النار، وأقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم؛ وأما الرابعة: فهي إخراج من دخل من النار من الموحدين، وهذا يشفع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنبياء والملائكة والمؤمنون، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع المؤمنون وشفع النبيون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيخرجون حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود، نسأل الله العافية. والمعتزلة تقول: لن يخرج من النار من دخل فيها، وهذا تكذيب للشريعة، ومعاندة لأحاديث متواترة في ذلك، ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ".. حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود". ومن فضائله صلى الله عليه وسلم إعطاء الرضا، والسول، والكوثر، وسماع القول، وإتمام النعمة، والعفو عما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وعزة النصر، ونزول السكينة، وإيتاء الكتاب، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، وأن بعثه رحمة للعالمين، يعني لجميع الخلق إنسهم وجنهم، وآتاه الله نورين لم يؤتهما نبي قبله كما في صحيح مسلم: "بينما جبريل -عليه السلام- قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته". اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، وصل عليه في الأولين والآخرين صلاة دائمة لا نهاية لها كما لا نهاية لكماله وعد كماله، اللهم اجعل نبينا لنا فرطا، واجعل حوضه لنا موعدا، واحشرنا اللهم في زمرته، ووفقنا للأخذ بسنته، وتوفنا على ملته، وعرفنا وجهه، واجمع بيننا وبينه كما آمنا به ولم نره، ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، آمين.