بداية قد يسأل شخص: وهل للحج مقاصد؟ وقد يعترض البعض ويقول: إن الأصل في العبادات كلها التعبد، ولا ينبغي البحث فيها عن المقاصد. والجواب أن الله عز وجل تعبدنا بأنواع من العبادات خضوعا لأمره، وانقيادا لحكمه، ولكنه لم يمنعنا أبدا من التعرف على المقاصد والغايات والحكم والأسرار التي جعلها في هاته العبادات، وإن كان المسلم يطيع أمر الله تعالى بغض النظر عن مقاصده. فلا يجوز له أن يربط انقياده وطاعته لربه بمعرفة مقاصد وحكم وأسرار ما أمره به؛ لأن ذلك يدخل في إطار التخير في الانقياد والطاعة، وتلك مقدمة العصيان والطغيان "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا" [الاَحزاب، 36]. وقد ذكر لنا القرآن الكريم بعض المقاصد في بعض العبادات. من ذلك قول الله تعالى بعد ذكر أحكام الوضوء والتيمم: "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [المائدة، 6]. وقوله تعالى في الصلاة: "اَتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون" [العنكبوت، 45]. وقوله عز وجل في الصيام: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة، 183]. وغير ذلك من الأمثلة. إن معرفة بعض مقاصد العبادات لمِما يقوي العزيمة على إتيانها، ويرفع درجة نشاط المؤمن والمؤمنة فيها. بل إن معرفة هذه المقاصد هو الذي ينقل العبادات من مجرد طقوس وشعائر، إلى روح ومعنى ومشاعر. فكم من الناس يصلون ولا تجد لصلاتهم أثرا في سلوكهم، يخرجون منها كما دخلوا.. وكم من الناس يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم.. وكم من الناس يصومون وليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش.. وكم من الناس يحجون، ولا يرجعون من حجهم إلا بالجهد والتعب، وربما يرجعون من حجهم أسوأ مما كانوا من قبل، والعياذ بالله. وإذا بحثت عن السبب وجدتهم لم يدركوا حقيقة الحج، ومقاصده وحكمه وأسراره. إننا عندما نتأمل أعمال الحج من بدايته إلى نهايته، نجدها تذكرة قوية بالآخرة. فالحج نفسه معناه في اللغة القصد، وهو يشير إلى الانتقال والرحيل من مكان إلى مكان. وهذا يذكرنا بالرحيل من دار الفناء إلى دار البقاء. تبدأ رحلة الحج بالخروج من البيت وترك الأهل والأولاد والأحباب والجيران والأصدقاء والمتاع، وهذا يذكرنا بخروج الروح من الجسد، حيث يترك الإنسان كل شيء في هذه الدنيا. ثم ما يلبث الحاج أن يركب المركب ليسافر، وهذا يذكرنا بحمل الميت على النعش للذهاب به إلى المقبرة، ولعل ذلك هو السر في قولنا عند الدعاء في أي سفر بعد ركوب المركب: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون" [الزخرف، 13-14] أي راجعون. وعندما يصل الحاج إلى الميقات، يتجرد من كل شيء إلا من لباس الإحرام. وما لباس الإحرام إلا مثل الكفن: خرقة بيضاء لا أثر فيها للدنيا، فليست مخيطة ولا محيطة، يستوي في ذلك الفقير والغني والكبير والصغير، والأسود والأبيض والأحمر وغيرهم. وقبل أن يلبس الحاج لباس الإحرام يغتسل ويتطيب، تماما كما نغسل الميت ونطيبه. بعد ذلك يصلي ركعتين، وهذا يذكر الحاج باليوم الذي يصلى فيه عليه. وعندما يصل الحاج إلى مكة يلتقي بأناس لم يعرفهم من قبل ولا سبق له أن التقاهم أو رآهم، أناس من مختلف الجهات والبلدان والقارات، بمختلف الألسن واللغات واللهجات، بمختلف الألوان والصفات والسمات، بمختلف الأحجام والطباع والعادات، وخاصة في يوم عرفة، فيتذكر الحاج يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، في أرض المحشر. ثم ينفض الجمع بعد غروب شمس يوم عرفة، وينفر الحجاج إلى مزدلفة، منهم من فاز ومنهم من انقضى يومه ولم يظفر منه بشيء؛ لأنه اشتغل بالدنيا وفوت الذكر والابتهال والتضرع والدعاء، فيتذكر الحاج يوم يقيم الله للناس الحساب، فمنهم شقي وسعيد. "فأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْاَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْاَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَعَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" [هود، 106-108]. وأما عندما يرمي الحاج الجمرات، فعليه أن يتذكر عندما يقف إبليس يوم القيامة خطيباً في جهنم، على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً، فيتبرأ من كل من تبعه في الدنيا وأطاعه، يوم يلقي فيه الشيطان باللائمة على أتباعه في سوء اختيارهم، ولا يجد منجاة لنفسه ولا لهم. قال تعالى: "وقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الاَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ" [اِبراهيم، 22]. فعندما يتذكر الحاج هذا الموقف المهول المخيف، يتذكر موقف أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام عندما أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل، فجاءه الشيطان يثبطه ويثنيه عن تنفيذ أمر الله، فما كان من خليل الرحمان إلا أن رمى الشيطان بسبع حصيات كن له مثل الجمرات المحرقات. وأي شيء أصعب على الشيطان من أن يعصيه المؤمن؟ عندما يتذكر الحاج هذين الموقفين، يرمي الجمرات وهو واثق الخطى أنه بذلك يعصي إبليس طاعة لله، وأنه يعلن الحرب والعداوة على الشيطان وأوليائه وحزبه، امتثالا لأمر الله تعالى: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا اِنما يدعو حزبه ليكونوا من اَصحاب السعير" [فاطر، 6]. تلك إذن هي حقيقة الحج الذي يذكر الحاج بالآخرة، فيندم على ما فرط في جنب الله قبل حجه، ويعزم على تغيير حاله، والاستعداد ليوم الرحيل الأكبر. ولا شك أن من أكرمه الله تعالى باستحضار هذه المقاصد والمعاني، سيتفضل عليه بمغفرة ذنوبه وآثامه، فيرجع من حجه كيوم ولدته أمه، صفحة بيضاء نقية، وسريرة طاهرة تقية، وسيرة خيرة في البرية..