قال تعالى: "وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول غنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الاَرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون" [سورة البقرة، الآيات 66-70]. تضمنت الآيات التي بين أيدينا جملة من الأدعية المتتابعة، والتي أعقبت إخبار موسى عليه السلام قومه من بني إسرائيل أن الله تعالى أمرهم بذبح بقرة. والمقام الذي سيق فيه هذه الآيات الخمس من سورة البقرة هو مقام مقالي ذم الله تعالى من خلاله بني إسرائيل بسبب ما ارتكبوه من مساوئ مختلفة. فقد ذم الله سوء أدبهم مع نبي الله موسى؛ لأنهم عوض أن يستجيبوا للأمر الإلهي بالذبح ركنوا إلى السفه، فاتهموا نبي الله موسى بالاستهزاء بكل ما قد يلزم عنه من مزاح وسخرية. وذلك من الجهل والجهالة التي يتلبس بها الجاهلون. لم يكن أمام موسى لدفع تهمة الاستهزاء إلا أن طلب من الله تعالى أن يعيذه من أن يكون من الجاهلين لقوله تعالى: "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين". كما ذم الله تعالى دعائهم؛ لأن صيغته تنم وتدل على أن الشكوك لا زالت تراودهم في مدى جدية نبي الله موسى في ما أوحى إليه الله تعالى من التكليف بذبح البقرة: "ادع لنا ربك" فكأنما هو ربه وحده لا ربهم، بل ورب العالمين كذلك. كما ذم الله تعالى نوع تلقيهم للتكليف بذبح البقرة؛ لأنهم عوض أن يهبوا إلى ذبح أي بقرة تجزئهم فضلوا أن يخوضوا أولا في دعاء ماهية البقرة، وثانيا في دعاء لونها حتى وقعوا في الاشتباه والاستشكال؛ لأنهم ضيقوا على أنفسهم دوائر تطبيق الأحكام الإلهية المتسعة وفسيحة والسهلة بسبب اتساقها مع الفطرة الإنسانية ومواءمتها لإمكاناتها المختلفة. ولهذا لجأوا في نهاية المطاف إلى دعاء الهداية من الله تعالى فقالوا: "إن البقرة تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون". إن خوضهم في أدعية من قبيل السؤال عن ماهية البقرة وصفتها، ثم عن لونها فعن ماهيتها مرة أخرى دليل واضح على سوء تلقيهم استوجب من الله تعالى تأديبهم بأن تتوفر البقرة على صفات قد يتعذر أو قد يصعب وجودها مجتمعة. وهكذا إن البقرة يجب أن تكون وسطا: لا هي عجوز ولا هي شابة كما في قوله تعالى: "إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك". ويجب أن تكون "صفراء فاقع لونها تسر الناظرين". ويجب أن تكون غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع. فهي كما قال تعالى: "لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها". وكلها صفات المغزى من ضرورة توفرها تأديبهم على أدعيتهم التي تدل على سوء أخلاقهم التي يتوسلون بها للعصيان الذميم، والتي تكشف في الوقت نفسه سوء تلقيهم وفهمهم للتشريعات الإلهية"[1]. ------------------------------- 1. تماما كما "يؤدب طالب العلم إذا سأل سؤالا لا يليق برتبته في العلم... ومن ضروب التأديب الحمل على عمل شاق" ابن عاشور، التحرير والتنوير ج 1 ص: 552.