إن هناك نقطا مضيئة في جبين تاريخ هذه الرسالة وعلى امتداده؛ كحدث نزول القرآن، وبداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وانتصار الرعيل الأول في غزوة بدر التي سمى الله يومها يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، ويوم فتح مكة؛ فتح الفتوح... ولكنها لا تضاهي المعنى العظيم الذي لمحه سيدنا عمر رضي الله عنه في حدث الهجرة؛ وهو أن الهجرة النبوية أساس المدنية الإسلامية، وأساس فكرة التجمع المدني التي أراد الإسلام أن يهديها للعالم، وينبوع النظام المجتمعي الإسلامي؛ بما سنه عليه الصلاة والسلام في تلك العشر سنوات التي قضاها في المدينة من أصول العمران، ومباني النظام. نعم، إنه يستحيل فهم الإسلام أصولا وفروعا، وأحكاما ومقاصد دون استحضار هذا البعد الكلي المختلط بلحمته وسداه؛ إذ توجهه العام في التشريع جماعي، وعباداته وشعائره جماعية، وقيمه العليا وفضائله الأخلاقية جماعية. والإسلام حريص على التسامي بالإنسان لإدراك هذه القيم التشريعية والأخلاقية على صورتها وهيئتها الجماعية، وتحفيز المجتمع كافة "ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" [سورة البقرة، الآية: 208] لاحتضان قيم الوحي المبارك، وتطبيقها في حياته الخاصة والعامة؛ إذ هذه القيم متشوفة إلى هذا المعنى الجليل، ومن الصعب التقرب إلى الله أو الانتساب إلى هذا الدين بغض الطرف عنه. وأنا أستحث تفكير القراء الأفاضل في هذه النقطة؛ بأن يتصوروا معي كيف يكون حال الإسلام لو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من أحب الأوطان إلى قلبه مكة؛ وقد أدرك مغزى هذا السؤال المؤرخ الفرنسي "جورج كيوركي" عند ما قال: "إن القبيلة والعشيرة هي الشجرة الوحيدة التي تنبت في الصحراء، ولا يمكن لأي إنسان أن يتنسم نسمات الحياة إلا في ظلها، ومع ذلك قطعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم) في سبيل ربه؟". ثم كيف يكون حال الإسلام؛ لو مكث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء متأملا متحنثا؛ وهي الفكرة التي منّى بها بعض الصالحين نفسه في هذا العصر حين قال بحسن نية: "صعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلى يشير إلى الإسراء والمعراج ثم رجع إلى الأرض، قسما بربي لو أني بلغت المقام الذي بلغ، لما عدت منه أبدا". ولكن نبينا صلى الله عليه وسلم رجع بأمر ربه، وشرع يشق طريقه في خريطة الزمان والمكان؛ ابتغاء التحكم في قوانين القوة، وقوانين التاريخ، وتوجيهها وتطويعها في سبيل جعل المبادئ العليا واقعا حيا، وأثرا مشهودا في الزمان والمكان... وهكذا ولدت الأمة، وكملت الملة، وتمت النعمة، وبلغت الرسالة أوجها، ونزل قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا" [سورة المائدة، الآية3]. وهكذا لم تعد الديانة أو الدين "سيرة النفس"؛ وأن الأنبياء يدندنون حول خلوص النفس في العاجل والآجل؛ كما يقول أبو حيان التوحيدي في "المقابسات"، ولكنه أيضا "سيرة مجتمع" وبرنامج عمل لضبط سيرة الجماعة ومسارها وتطورها، وحفظ استقلالها وكرامتها وهويتها، وتنظيم مرافق حياتها الخاصة والعامة على نحو يحقق للفرد الاندماج الاجتماعي، ويمنح الجماعة التجانس والفعالية والتضامن والوحدة. والعجيب أن هذا الأمر أعني النزعة الجماعية في الإسلام؛ حظي باهتمام الباحثين الغربيين أكثر من غيرهم؛ مثل جوزيف شلهود في كتابه "مدخل إلى سوسيولوجيا الإسلام"، ومنتغمري وايت في"محمد في المدينة"، و"الإسلام واندماج المجتمع"، ولويس غارديه في" المدينة الإسلامية،الحياة الاجتماعية والسياسية"، ومكسيم رودنسون وبراين تيرنر في"علم الاجتماع والإسلام"، و"إرنست غلنر" في كتابه "المجتمع الإسلامي"، ومارسيل بوازار في "إنسانية الإسلام"... وما من كتاب صنفه القوم في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم إلا وتوقفوا طويلا عند فلسفة الجماعة وأصولها، ومرافقها ونظمها في المدينة النبوية. وأقتطف هنا بعض هذه التقريرات من كتاب "إنسانية الإسلام" للقانوني السويسري الشهير مارسيل بوازار الذي أفرد الفصل الرابع منه بعنوان"المدينة الإسلامية" وفيه يقول: "يضفي الإسلام على المجتمع طابعا استثنائيا ملزما من خلال ثلاثة مظاهر أساسية تختص به وحده: • أولها: أن التنزيل يحدد الواجبات المترتبة على المسلم في جميع مناشط الحياة، ويعرفه بواجباته نحو الله أو نحو المجتمع... فمما يجب عليه أن يشارك في تماسك المجتمع وصلاحه ولو على حساب حياته الشخصية الخاصة؛ • الثانية: أن ممارسة العبادات والشعائر تنمي شعورا قويا بالانتماء إلى جماعة منظمة؛ • والثالثة: النظرة الإنسانية إلى الغير؛ إذ يقدم القرآن الخليقة على أنها كل متناسق ومتوازن في الخضوع لله الخالق؛ هذه النظرة تسهم في رص بنيان المجتمع، إذ يغدو تجمع المؤمنين نظاما مرصوصا يتبوأ فيه كل إنسان مكانه الطبيعي المناسب. ثم يقول: "الجماعة المنتظمة هي الشكل الاجتماعي الوحيد الممكن في نظر الإسلام، وهكذا تبدو الفضيلة الإسلامية جماعية بالضرورة. ومن الصعب العثور على اللفظ المقابل لكلمة الجماعة الإسلامية لشرح فكرتها نظرا لامتزاج الروحي بالزمني امتزاجا محكما، واتحاد الأحكام الأخلاقية والقانونية التي يحفل بها القرآن.. ويمكن تقريب مدلوله بعبارة "نظام حياة" أو"مجتمع عقدي منظم". ولقد تأسس الإسلام على هذا المعنى منذ ظهور الوحي إذ قام الدين بوظيفة الحافز المؤدي إلى تشكيل مجتمع من طراز خاص، بلغ من الصلابة أن القوى الاستعمارية المختلفة لم تتمكن من تصديعه. وبالرغم من النزعات الطائفية والسياسية في هذه الأيام ما يزال الشعور بالانتماء إلى أمة واحدة حيا لدى المؤمنين. وخلص منتغمري وايت إلى نحو هذا الاستنتاج قائلا: "إن فكرة الأمة كما جاء بها الإسلام هي الفكرة البديعة التي لم يسبق إليها، ولم تزل إلى هذا الزمن ينبوعا للفيض الإيماني الذي يدفع المسلمين إلى الوحدة في أمة واحدة؛ تختفي فيها حواجز الأجناس واللغات، وعصبيات النسب والسلالة. ولقد تفرد الإسلام بخلق هذه الوحدة بين أتباعه؛ فاشتملت أمته على أقوام من العرب والفرس والهنود والمغول والصينيين والأمازيغ والسود والبيض؛ على تباعد الأقطار، وتفاوت المصالح، ولم يخرج من حظيرة هذه الأمة أحد لينشق عنها أويقطع الصلة بينه وبينها". ختاما: إن روح الدين الراسخة، وسنته المتبعة، ودولته المنيعة هي الجماعة، ليس باعتبارها حشدا من الرؤوس والعشائر والقبائل والأعراق، ولكن باعتبارها هيئة اجتماعية متمدنة قائمة على مبدأ الحق والعدل والتضامن الروحي، والالتزام بالقيم الرسالية وممارسة أحكامها أي باعتبار مبدأ الالتزام الأخلاقي محورا للاجتماع بمختلف مؤسساته ومرافقه وتجلياته، وللحديث بقية والسلام.