وفي الجانب المسطور "الوحي"، فنجد أنه هو أيضًا بناء؛ فاللٰه سبحانه وتعالى يتحدث عن القرآن المجيد فيقول: "وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً" [الفرقان، 32]؛ والشيء الرَّتل هو الحسن البناء والنَّضد، والقرآن المجيد من خلال هذا البناء، كأنه جملة واحدة كما نصّ عليه أبو بكر ابن العربي -رحمه اللٰه- حين قال: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني، علم عظيم لم يتعرّض له إلا عالم واحد.. ثم فتح اللٰه عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حمَلَة، ورأينا الخلق بأوصافِ البطَلَة، ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين اللٰه، ورَدَدناه إليه"[1]. وللإمام الشاطبي كلام أيضًا بهذا المعنى؛ أي أنّ القرآن كالخبر الواحد وكالجملة الواحدة، وابن حزم الأندلسي أيضًا له في إحكامه كلام يفيد هذا المعنى، والبرهان البقاعي والبدر الزركشي وغير هؤلاء، كلهم تكلّموا عن كون القرآن المجيد بناء عضويًّا، وأنه لا يفهم إلا بردّ بعضه على بعض. وهذه البنائية هي التي مكّنت الإنسان من أن يقوم بالقراءة من خلال تلقي الكلمات، وهذا أبرز تجليات المواءمة بينه وبين كتاب الختم، وقد ذمّ الله عز وجل الذين جعلوا القرآن عِضِين؛ أي الذين يفرِّقونه ويعضّونه، وذلك في قوله تعالى: "كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ" [الحجر، 90-91]. وإذا كانت القراءة في الجانب الكوني تتم بالتفكّر "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلاَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ" [آل عمران، 191]. فإنها في الجانب المسطور "الوحي" تتم بالتدبر "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد، 25]. يتبع في العدد المقبل…