يقول الله عز وجل: "اِنَّ الَّذِينَ اَتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" [الاَعراف، 201]. فمن صفات المتقين أنهم إذا ألم بهم طائف من الشيطان ليحملهم بوسوسته على معصية أو فساد، تذكروا ما أمر الله به من الاستعاذة بالله تعالى، والالتجاء إليه، وتذكروا وعد الله ووعيده… والتعبير ب "إذا" الفجائية يفيد سرعة رجوعهم إلى الحق والرشد، وسرعة إدراكهم للموقف وما يحيط به، وشعورهم بأنهم على حافة الهاوية، وهذا الإدراك يغير وضع المؤمن في الحال، وتنقلب النفس التي كان الشيطان آخذا بإغوائها وتزيين المحرم لها إلى نفس يقظة تنظر إلى الأمر الذي أغريت به فتراه على حقيقته أسود مظلما كريها. وهذا التذكر الواعي ليس أمرا يسيرا على جميع النفوس؛ فهناك نفوس سقيمة عاتية لا تريد أن تتذكر أبدا، بل هي تسخر ممن يذكرها ومما تذكر به؛ وهناك نفوس كنفوس الأطفال لا تملك أن تدفع عنها سلطات الشهوات المسيطر عليها؛ وهناك النفوس الواعية المؤمنة التي خبرت التجارب وحنكتها الدروس؛ هذه تكون سريعة التذكر سريعة الفيء إلى طاعة الله ورسوله، وقد تتفاوت هذه النفوس في سرعة رجوعها إلى الحق وفي نقاط ضعفها ما يحتاج معه المرء إلى عقل متكامل، ووجدان وإرادة نافدة، وكل هذا يدل على أن التقوى ليست كما يظن الناس مظهر خاشع وسلوك الدراويش، ولكنها بصيرة وخبرة ودربة طويلة، وقبل ذلك وبعده توفيق خالص وعناية إلهية. فالوجدان تزيده التربية وضوحا ونقاء، وتزيده قدرة على التمييز بين الحق والباطل، وقدرة على اتخاذ سبيل الرشد سبيلا، وهذه التربية التي تربي هذا الوجدان لا يتم لها ذلك إلا بتربية العقل وتدريبه على إدراك خفايا الأمور ودقائقها، واحترام القوانين والأسباب، وهكذا يظل المؤمن يعالج ثغرات نفسه ونقط ضعفه، ويجاهد أهواءه وعيوبه حتى ينتهي به الأمر إلى أن تصبح التقوى مغروسة في طبيعته وسجية من سجاياه، وهنا يدرك ثمرة التقوى في أيامه ومراحل وجوده كلها، فيصبح طبعه الخير، وهواه مع الخير؛ وكراهيته للشر ونفوره كما يكره أن يلقى في النار، وهذا المعنى جاء واضحا في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" [الاَنفال، 29]؛ قال ابن عباس ومجاهد فرقانا "مخرجا"، وقيل "نجاة" وقيل "نصرا" وقال محمد بن إسحاق فرقانا أي "فصلا بين الحق والباطل" وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما سبق؛ يستلزم ذلك كله، فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك نواهيه، وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من هموم الدنيا والآخرة.. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُوتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [الحديد، 27]، والكفل هو الحظ والنصيب، والنور هو ما يبصر من عمى الجهالة، ويكشف الحق لقاصده، وهذه ثمرة التقوى في النفوس… ملكة راسخة في النفس تستطيع بها التمييز والفصل بين الحق والباطل؛ ثمرة التقوى رؤية الحق حقا ورؤية الباطل باطلا، وقد يحسب الناس أن ذلك أمرا يسيرا… ومن أبصر ما عليه المسلمون اليوم من تخبط وحزن وشقاق وتقاتل لا يدري القاتل فيم قتل، ولا يدري المقتول فيم قتل، وهم مستهينون بجميع هذه الأعمال.. من رأى حال المسلمين في زماننا هذا عرف قيمة معنى قوله تعالى: "إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً" [الاَنفال، 29] "الفرقانية" نور يميز به بين الحق والباطل، وبين الحجة والشبهة… والمسلمون اليوم أصبح الحق الذي بأيديهم شبيها بالباطل بأعين الناس لعدم إدراكهم لحقائقه ومراميه، وعدم تمييزهم بين الصحيح والزائف؛ و"التقوى" هي إدراك دقيق ورأي حصيف ووجدان نقي وإرادة خيرة تلتزم جانب الحق، وتعمل في سبيل الخير… والإسلام والإيمان والتقوى هذه المصطلحات في عرف القرآن المجيد لها نتيجة حتمية، وثمرة معروفة.. ففي موقعة بدر أمر المؤمنون بأن يتقوا الله، وجعل ذلك ممهدا للأمر بإصلاح ذات البين "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ" [الاَنفال،1] وأمر المؤمنون في سورة "آل عمران" بأن يتقو الله حق تقاته؛ ليأتي الأمر مباشرة بأن يعتصموا بحبل الله جميعا وألا يتفرقوا، وأمروا في سورة "الحج" بأن يجاهدوا في الله حق جهاده.. وهكذا يأمرنا جل شأنه أن نبذل جهدنا، ونستفرغ وسعنا في سبيل بلوغ هذه الثمرة التي هي النظر في الأمور نظرة فاحصة مبصرة تؤدي إلى الإقلاع عن الخطأ والرجوع إلى مرضاة الله تعالى، وهكذا تدخل التقوى في مجالات الحياة كلها في حالة، وجود الفرد وحده، أم مع أهله وبنيه، وفي حالة وجوده في عمله وقيامه بمسؤولياته، وفي إنصافه من نفسه وسعيه لوحدة الجماعة التي يعيش في كنفها؛ فلابد للإيمان من صورة عملية واقعية يترجم عن حقيقته كما قال الحسن البصري: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً غرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل". والله المستعان