إن عطاء التدريس الطبي بجامعة القرويين خلال العصر العلوي استمر حتى نهاية القرن التاسع عشر، مما مكّن المغرب من إسهام نظري جدير بالاعتبار، لكن لم توازيه نهضة طبية عملية كالتي عرفت خلال العصر الموحدي وبشكل جزئي خلال العصر السعدي؛ وإذا كان تدريس الطب بجامعة القرويين خاصة وبالمغرب عامة قد تأثر بظروف الرخاء والاضطراب.. وإذا كان قد تقلصت معالمه بدخول الطب الأوربي فإنه كان حريصا على التواصل مع المشرق والغرب من خلال بعض البعثات، خصوصا في عصر السلطان الحسن الأول، وهو العهد الذي برز فيه الطبيب النابغة عبد السلام العلمي صاحب "ضياء النبراس"[1]… خلال عهد المولى الحسن إبان فترة البعثات العلمية إلى الخارج، سيعرف علم الطب انتعاشا ملحوظا، ويشكل كتاب ضياء النبراس لعبد السلام العلمي قمة الطموح في هذا الإطار، إذ يجمع بين تجديد المادة التراثية والنهل من مصادر ما يسميه العلمي ب"الطب الجديد".. إن ذروة التفكير الطبي العلمي خلال العصر العلوي قد تجسد في شخصية الطبيب سيدي عبد السلام العلمي المتوفى بفاس عام 1323 ه/ 1905 م؛ وقد انتدبه السلطان مولاي الحسن الأول لدراسة الطب بمصر، فالتحق بمستشفى اقصر العيني وصار يدرس الطب على علماء من مصر وإسبانيا وفرنسا وحضر تشريح نحو 1600 جثة من مخلفات ثورة عرابي الشهيرة. ولما عاد إلى بلاده، فتح عيادة صغيرة قرب حرم مولاي إدريس بفاس"؛ وألف في علم الطب تآليف هي: "ضياء النبراس في حل مفردات الأنطاكي بلغة فاس: وهذا الكتاب -في بعض جوانبه- يهتم بذكر الأسماء المغربية لما ورد في "تذكرة" داود الأنطاكي المتوفى عام 1008 ه/ 1599 م… إن العمل الذي قام به الطبيب عبد السلام العلمي هو عمل علمي كبير، حيث قرب النفع بما ورد في كتاب "التذكرة" لعموم المهتمين بخواص الأعشاب في المغرب بأن جعل أمام الأسماء المشرقية للنباتات أسماءها المغربية مرتبة حسب الحروف الهجائية، ولم يكتف الطبيب العلمي بذلك فقط لكنه حافل بمعطيات أخرى حول طب المفردات والمواد المعدنية، وشرح دقيق لمصطلحات الطب الجديد كما درسه وخبره بمصر على يد علماء مختلفي الأصول والمشارب.. وقد حاول العلمي في كتابه هذا توضيح كيفية تقطير بعض الأعشاب الطبية مصوراً بالأشكال الهندسية الجهاز المستعمل لهذه الغاية، وقد أهدى المؤلف كتابه هذا للسلطان مولاي الحسن اعترافاً منه بالجميل الذي أسداه إليه بإرساله في بعثة دراسية إلى مصر. طبع هذا الكتاب على المطبعة الحجرية بفاس في حياة المؤلف في أواخر القرن التاسع عشر، ثم أعيد طبعه سنة 1986، وله "البدر المنير في علاج البواسير"، وهو مطبوع مع كتاب "ضياء النبراس" في طبعته الأولى وليس الثانية. وقد رتب كتابه هذا على مقالات وفصول، تحدث في المقالة الأولى الفصل الأول منها على العلامات التي يتميز بها دم البواسير من دم الكبد ومن دم الأمعاء؛ وفي الفصل الثاني تحدث عن دم البواسير بوصفه دم علة وفساد وأن خروجه من الجسم خير من احتباسه؛ وخصص الفصل الثالث لما ينبغي لصاحب هذه العلة من التحفظ وفيما يناسبه من الأغذية وما لا يناسبه منها. أما الفصل الرابع، فهو لكيفية معالجة البواسير، والمقالة الثانية في كيفية تركيب الأدوية المأخوذة من الطب القديم والجديد النافعة للبواسير، وفيها فصول: الأول فيما يسكن ألم البواسير عند الأقدمين؛ والفصل الثاني فيما يسكن ألم البواسير في علم الطب الجديد… وله منظومة رجزية في علم التشريح سماها "مفتاح التشريح" تقع في ثمانية وسبعين بيتاً طبعت بهامش "ضياء النبراس". يتحدث العلمي في هذه المنظومة عن تركيب الهيكل الجسمي للإنسان وتفصيل أسماء العظام وأنواعها، وقد ذكر منها 8 للجمجمة و13 للوجه و64 للأطراف العليا و60 للأطراف السفلى و53 للجذع. ثم جهاز البصر والسمع والأنف وأعضاء العنق والصدر والأمعاء والبطن والجهاز البولي والجهاز التناسلي عند المرأة والرجل، وبذلك يتأكد لنا أن الرجل كان في عصره إطاراً طبياً مهماً: لو اسْتُغِلَّ أحسن استغلال، لكانت النتائج حميدة.. وله "الأسرار المحكمة في حل رموز الكتب المترجمة" فسر في هذا الكتاب مصطلحات الكتب الطبية الأجنبية التي ترجمت إلى اللغة العربية في عصره، و"التبصرة في سهولة الانتفاع بمجربات "التذكرة"؛ وقد رتب في هذا الكتاب "تذكرة" الأنطاكي المشار إليها ترتيب الأمراض، بدلاً من الحروف كما فعل في كتابه "ضياء النبراس"… لقد أدرك معاصرو عبد السلام العلمي قيمته العلمية وتفرده بين أبناء عصره، تدل على ذلك شهادة من الباشا إسماعيل الذي كان العلمي يحضر مجالسه العلمية الطبية بمصر؛ وهو القائل في حق: "ومن حظي الأوفر أني اجتمعت مع مثل هذا الفاضل الماهر، فوجدته في العلم والعمل وحيد، وفي المعارف بالنسبة لأقرانه فريد.."[2]. وبعد، فهذه بعض جوانب النبوغ الطبي خلال العصر العلوي قصدت منها التأكيد على أهمية الطب في تاريخ المغرب الفكري والإنساني، ومؤكدا على أن ازدهار الطب يدل على ازدهار البلد والعكس صحيح.. رحم الله علماءنا الذي أثروا المعرفة الطبية نظريا وعمليا ونفعنا بعلمهم، ونرجو من الله تعالى أن يزدهر الطب في بلادنا.. والله الموفق للخير والمعين عليه ———————————————— 1. نقلا عن الطب والأطباء، ن.م.ص: 86. 2. محمد البكراوي، الطبيب عبد السلام محمد الحسني العلمي الفاسي. دفاتر تاريخية. العدد 1. خريف 2010. جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. كلية الآداب ظهر المهراز.