يقول عز وجل جلت قدرته: "قال رب إني أعوذ بك أن اَسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين" [هود، 47]. لقد نفى الله تعالى أن يكون ابن نوح منتميا إلى الدين الذي يدين به نوح إلى الله تعالى، بل اعتبر سبحانه الدعاء له عملا غير صالح فيه من الجهل أكثر مما فيه من العلم الذي يقتضي التثبت والتريث، وهذا واضح فيما سبق من قوله تعالى: "واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" [هود، 37]، وهو أوضح في قوله تعالى بعد ذلك "فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ اِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" [هود، 46]. يبدو من هذا النهي الإلهي عن هذا النوع من الأدعية جملة من العبر التي يمكن للمتدبر استخلاصها: منها أن الانتماء المقصود في الإسلام هو الانتماء الذي لا يتناقض مع حقائقه الاعتقادية ومقاصده الإصلاحية. فعلى أساس هذا الانتماء يكون الجزاء والعقاب في الدنيا والآخرة. ومنها إن استرسال الإنسان مع ما فطر عليه من عواطف الرأفة والرحمة بالأولاد قد يؤدي به إلى التناقض والتصادم مع التعاليم الإلهية. فهذه العواطف إذا لم تسدد بالعلم الصحيح تضعف الإنسان حتى ولو كان نبيا مرسلا. والعلم الصحيح هو الذي لا يبطل الشريعة والواقع لأنه يحفظهما ويصونهما عن اللغو والعبث والإهمال، ولا سبيل إلى بناء هذا العلم إلا باكتشاف القوانين والسنن التشريعية والكونية والمجتمعية. ومنها قانون الجزاء والعقاب لقوله تعالى: "ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للاِنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى ثم يجزاه الجزاء الاَوفى وأن إلى ربك المنتهى" [النجم، 37-41]. والحق، وانطلاقا من تبين نوح عليه السلام لكل هذه العبر، لم يكن أمامه إلا أن يستعيذ بالله من أن يسأله ما ليس له به علم، ثم المسارعة بعد ذلك إلى طلب المغفرة وطلب الرحمة. ففي المغفرة تخلية، وفي الرحمة تحلية، والتخلية مقدمة على التحلية "لأنه إذا كان بمحل الرضا من الله تعالى كان أهلا للرحمة"[1]. —————- 1. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 12، ص: 88.