المسائية العربية لا يمكن أن يمر حدث خروج الأستاذ العروي بسبب موقفه من مشكل اللغة،مرور الكرام، لأنه ليس إنسانا عاديا أو مزاجيا أو منفعلا،سواء خلال حوار مع جريدة الأحداث،أو مع القناة الثانية،خلال حضوره في مناظرة تلفزية مباشرة حول إشكالية التدريس بالدارجة المغربية وموقفه الرافض لها،لأنه ليس شخصية عادية. هو ليس سياسيا يستثمر التلفزيون لاستحقاق انتخابي أو للتفاوض حول هدف مادي يهيئ له،أو لشخص يبحث عن ترويج لمنتوجه ولصورته قصد الانتشار و الإشهار. ولكنه مؤرخ وأستاذ تاريخ،بما في كلمة مؤرخ من معنى الوعي بالزمن،بالمجتمع،وبأهمية المجال. خروج الأستاذ العروي الأخير،كتبه ودروسه،أحداث فارقة في الدرس التاريخي والفكري المغربي،أطروحته ومشروعه في عوائق الحداثة والتحديث المغربي والعربي،مرجع أساسي في الثقافة المغربية والعربية،ليس رأيا عاديا،أو وجهة نظر متسرعة أو سطحية،أو نزوة همت به وهمَّ بها،بل تدخلا في لحظة فارقة من تاريخ المغرب،في سياق عربي،ينزع إلى المحافظة والتقليد،هو يخاف اللغة أن تفسد المشروع المغربي الموحد والحداثي،لأن سؤال اللغة ليس فقط عملا تقنيا لسانيا،ولكنه مشروع مجتمع،يحتاج إلى مؤسسات علمية وإلى أبحاث رصينة،وليس ترفا فكريا أو نقطة في جدول أعمال برنامج انتخابي،غير قابل للتطبيق.وهو يعي جيدا ما يقول لأنه درس إشكالات اللغة عربي ودوليا،ويعرف آثار انزلاق التدريس بالعامية ومخاطرها المجتمعية.(يمكن الرجوع إلى كتب"ثقافتنا في ضوء التاريخ"-"من ديوان السياسة" "مفهوم التاريخ ")وغيرها. الأستاذ عبد الله العروي بخروجه من "مقبعه" كما قال تواضعا،بل من مكتبه،ومن أبحاثه العلمية الرصينة في التاريخ والفكر والإبداع ،خرج بصورة العالم المفكر المثقف العضوي،الذي يعي التحولات والمنعطفات ،ويعي الآفاق،لأن أي خروج آخر لن يكون له نفس الحضور ،ونفس القوة التي يمكن أن تؤثر في مشروع يُهَيء في مطابخ مغلقة،لا يهم من يقوم بتهييء وصفاته التي لا تخلو من مصالح،وهذا شأنه لأنه لا يُرى إلا بعيون تجارية وليست ثقافية أو حضارية. هو يتحدث حينما ينبغي الحديث والتدخل، بدون ثرثرة أو مزايدة أو فذلكات غير مدروسة وغير مؤثرة،يتحدث من موقع العالِم الجامِع. يقول الأستاذ العروي أن اللغة هي مرآة تنعكس فيها أحوال الثقافة والدولة والحضارة.فالمشكل ليس نزوة فريق لساني معين أو مجموعة مستشهرين يهمهم المال.ولكن الأستاذ العروي يهمه المآل،مآل شعب بتنوع تاريخه وثقافته وحضارته على طول مجاله الترابي والثقافي. المشكل ليس التدريس بالدارجة المغربية المتنوعة جهويا وانتربولوجيا، ولكنه مشكل وجود وتقدم،كما قال في حواراته وخلال المناظرة المباشرة.وتدخله يدخل ضمن نطاق مقدار الوعي بالمشكلة ومقدار الجدية في معالجتها،وبخاصة في مسألة اللغة،وهي الصعوبة التي يواجهها اللسان المقَوعد مع تعدد اللهجات،المحكية أو العامية كما قال(من ديوان السياسة ص56 ).والمشكلة ليست مشكل تواصل،إذ يمكن اعتماد لغة وسيطة في نظره،لكنه يركز على مسألة الكتابة والتأليف باللغة. مشكل اللغة ولغة التدريس،هي جزء من أزمة المدرسة المغربية المتراكم من بداية الاستقلال،مرورا بكل مشاريع الإصلاح إلى الآن،أنجز لإصلاحها الكثير،ووقعت تعثرات في الطريق،لأسباب يعرفها الجميع.وإذا كانت المدرسة، مثل البقرة التي تسقط فتكثر السكاكين ،وإذ تعتبر المدرسة شأن الجميع، فهي ليست مثل الحائط القصير الذي يحاول تجاوزه،كل من لم يجد شغلا،أو بعض الباحثين عن العمل الإضافي في السياسة وفي التعليم أيضا،والذين لم يقدموا أي شيء للمدرسة المغربية،بل استفادوا منها الكثير بدون أن يعطوها أي شيء،فللمنظومة التربوية لها مؤسساتها،ولها من يفكر فيها ،ويرعاها ويحميها، في القسم وفي الميدان. أعتز كثيرا بتدخل أستاذنا الكبير في حادث لم يفهم مغزاه وسياقه،من طرف أغلب المتدخلين،فتمتْ قراءته إيديولوجيا،وهذا يدل على نقص دبيب المثقف المغربي،ودوره في مناقشة القضايا الكبرى،التي تحتاج إلى تتبع علمي وفكري مستمر،وليس إلى الانفعال المؤقت،والحكم المتسرع،والرأي الصحافي،الذي يهمه رقم المعالجة والمقال،بدل الفصل في المقول والمقال.