بقلم: محمد الساسي في هذه الأيام علينا أن نلتزم أقصى درجات اليقظة ونحن نطلع على ما يُكتب ويُنشر ويُنقل من معلومات وأخبار وتحاليل وتعليقات وتغطيات إعلامية وما يُدبج من افتتاحيات ومقالات وما يُذاع من صور. والسبب في ذلك هو التخوف المشروع من أن يكون وراء الخط الناظم للكثير من المواد المنشورة إرادة تصريف توجيه عام له مصدر عام وهدف سياسي يركب طرقا ملتوية لمناهضة الديمقراطية. طبعا من حق الجميع أن يساهم في النقاش العام وأن يتخذ المواقف التي يريد وأن يبني خطابه على المنطلقات والأسس التي تحلو له. لكننا نلاحظ وجود تناقضات كثيرة، وتغيير سريع في المواقف، وإخفاء حقائق من طرف من هو مطوق بواجب الإعلام بها والتأويل غير الموضوعي للأحداث، وتهويل بعضها، وإصدار أحكام قيمة خطيرة بغير سند، ومسايرة مقولات رسمية بغير تحر مستقل، كل هذا يدفعنا إلى توخي جانب الحذر، مع التأكيد على الحق في التعبير واحترام أطروحات الآخرين حتى ولو قامت على موالاة غير مشروطة لسلطة عمومية لم تحسم بعد مشكلتها مع الديمقراطية. كان الراحل الحسن الثاني يفتخر بأنه في المغرب لم يباشر تأسيس وزارة مكلفة بالتوجيه القومي، كما هو حال بعض بلدان المشرق العربي. بمعنى أن جهازاً وزاريا كاملا يُوَظَّفُ بصورة دائمة لترسيخ صورة معينة في الأذهان بطريقة مباشرة وبلا مساحيق، ويُعبأ لنشر فكر معين وتنميط الناس وفق نموذج معين. اليوم، نخشى أن ننتهي إلى إنشاء مثل تلك الوزارة بشكل خفي يعتمد وسائط متعددة لتعميم ذات النظرة وخدمة ذات الموقف. هناك من يريد أن يفرض على المغاربة جميعاً أن يفكروا بنفس الطريقة، ومن يعتبر أن ذلك يمثل شرط الوفاء لرابطة الانتماء إلى الوطن. إن أخطر ما يمكن أن يسقط فيه النقاش العام، هو التعبير عن مواقف لا تمليها القناعات، بل يمليها الشعور بضرورة إظهار حسن النية وبذل خدمة إلى سلطة تعتبر ذلك شرطاً للاعتراف أحياناً بالحقوق. كيف نفهم مثلاً أن يذهب حزب العدالة والتنمية في بيان رسمي إلى حد التصريح بأن جذارته بحق تلقي الاستجابة لمطالبه المشروعة تنطلق من كونه قرر ألا يساهم كحزب في حركة 20 فبراير، بمعنى أنه يطالب بالمقابل. طبعا هناك أحزاب أخرى تطالب ضمنيا "بمراعاة" قرارها بالامتناع عن التظاهر، في المسلسل السياسي المقبل، ولكنها لا تصل إلى حد التصريح بذلك علناً. ألا يدعونا ذلك إلى التشكيك أحياناً في صدق النوايا التي تحرك مواقف الفرقاء، وطرح احتمال أن تكون بعض المواقف مجرد "خدمات" يقصد أصحابها إلى تلقي "مقابل" رسمي من الجهة التي تخدم تلك المواقف مصلحتها. لنعترف إذن أن هناك مجهوذا رسميا تعززه اجتهادات إعلامية كثيفة يروم تثبيت مجموعة من المواقف باعتبارها "ثوابت" المرحلة، والتزامات تقع على عاتق المغاربة الذين يحترمون مغربيتهم ويغارون على وطنهم ويملكون القدر المطلوب من التبصر والرزانة. ولنعترف أنهم يطلبون منا جميعاً أن نتبنى بدون تحفظ أو تردد مجموعة من سبع مقولات على الأقل. يطلبون منا أن نُسَلِّمَ ب : 1- أن المغرب بعد المصادقة على الدستور، أصلح عطب الدولة، وأن المطروح الآن هو إصلاح عطب الأحزاب. 2- أن الشعب قال كلمته، ولم يعد هناك مبرر للتظاهر والاحتجاج أو لوجود حركة 20 فبراير 3- أن حركة 20 فبراير أصبحت هي العدل والإحسان، وأن العدل والإحسان أصبحت هي حركة 20 فبراير. 4- أن حركة 20 فبراير هي في حالة احتضار 5- أن الاستفتاء الدستوري شكل خطوة إلى الأمام في المسار الديمقراطي بالمغرب 6- أن ما تتعرض له حركة 20 فبراير ليس قمعاً أو قمعا بالوكالة، بل هو جواب مشروع تحركه مصالح مشروعة 7- أن الوضع في تونس ومصر تحول إلى مآل درامي، وأن الربيع العربي عموما قد انتهى إلى خريف دموي كارثي. 1- أصبح الحديث السائد اليوم هو التفكير في طرق تنزيل الدستور، فهو حَلَّ عملياً مشكل إدارة الدولة وعمل السلطات، وأصبح المطلوب هو السعي لحسن تطبيقه، وهذا السعي يصطدم بوضعية الأحزاب وعدم أهليتها لمواكبة مستوى الدستور. وبمعنى آخر، فإن الدولة قامت بثورتها وعلى الأحزاب أن تقوم بثورتها. طبعا الذي صوَّت بنعم، أصبحت أمامه اليوم مهمة واحدة هي "النضال" لتفعيل الدستور. لكن الذي قاطع الدستور أمامه مهمتان اثنتان : هي من جهة تفعيل الجوانب الإيجابية في الدستور باعتباره قانوناً قائماً، ومن جهة ثانية مواصلة المطالبة بدستور يطابق قواعد الملكية البرلمانية باعتبارها صيغة التوفيق الوحيدة بين الملكية الوراثية والديمقراطية. لقد سبق للكتلة الوطنية أن نجحت في حمل الحسن الثاني على طرح دستور جديد بعد شهور من الاستفتاء الدستوري لعام 1970. إن مجرد تأمل الظروف التي يتم فيها الإعداد للانتخابات المقبلة يجعلنا نعاين استمرار "عطب" الدولة، فجهة واحدة هي التي وضعت اليومية السياسية بكل تفاصيلها، ويتم التعامل مع مختلف الأطراف باعتبارها تابعة لإرادة أعلى. 2- التصريح بأن الشعب قال كلمته ولم يعد هناك مبرر للتظاهر أو لوجود حركة 20 فبراير، ينطلق من أن الشعب صوَّتَ على حظر الحركة وحظر الاحتجاج، والحال أن مهمة الدساتير هي كفالة الحريات بما فيها حرية التظاهر. ولا يمكن أن يكون هناك تصويت ضد الحرية، لأن مثل هذا التصويت حتى وإن حصل في بلد ما فهو يجرد الوثيقة المستفتى حولها من طبيعتها كدستور. بعد انتهاء الاستفتاء الدستوري، فإن السلوك الديمقراطي يفرض على معارضي الدستور احترام إرادة الشعب، والسعي لإقناعه مستقبلا بمواقفهم والتشبث بحق الاختلاف كأقلية إذا كان الاستفتاء قد جرى بصورة نظامية. كما أن السلوك الديمقراطي يفرض على مؤيدي الدستور استنكار أي مس بحرية الاختيار حصل خلال الاستفتاء ومناهضة الإخلال بالقواعد المُتعارف عليها في تدبير الاستفتاءات. فكيف "قال الشعب كلمته"؟ وهل عشنا استفتاء سليماً؟ الإدارة الترابية لم تكن محايدة، واستعملت أساليب الماضي، وجندت الأجواق والكثير من الجمعيات، ووزع أعوانها البطائق الانتخابية بشكل مخالف للقانون، وعلقوا اللافتات الداعية إلى التصويت بنعم، وانعقدت تجمعات لتأييد (نعم) من طرف هيئات عمومية وجماعات محلية على طول البلاد وعرضها. فمن ينفي كون هذا السلوك كان ممنهجا وعاماً ومرتبا وفق قرارات سياسية. وأن هذه القرارات هي التي جعلت الانطباع العام السائد هو أن كل شيء في مكاتب التصويت أو خارجها غدا جائزا ومسموحا به من أجل (نعم). لقد تصرف القائمون على الاستفتاء على أساس أن (نعم) قضية مقدسة يجب أن تُجَنَّد من أجلها كل الوسائل. حق المعترضين على الدستور لم يكن مكفولاً، فتم وضع منصات وأجواق في أماكن التظاهر، وتم تنظيم تظاهرات "مضادة" استُخدمت فيها الآليات والعربات لمنع المتظاهرين المناهضين للدستور ماديا من المرور بالشوارع والاحتشاد بالساحات، وتمت ملاحقتهم في المسارات البديلة التي اضطروا إلى انتهاجها. الدولة من خلال إحدى أكبر وزاراتها، وهي الأوقاف والشؤون الإسلامية فرضت وطنياً على الأئمة إلقاء خطبة جمعة تقرر دينيا أن التصويت بنعم واجب شرعي مفروض على المؤمن وأنه وحده المطابق لطاعة الله ورسوله. والوزارة المشار إليها عاقبت الأئمة الذين رفضوا إلقاء الخطبة. والخطاب الرسمي اعتمد على مقولات تربط بشكل واضح بين التصويت على الدستور وتأييد الملكية، وحولت الاستفتاء إلى نوع من البيعة. وفي النهاية فإن حرية الاختيار كانت آخر هواجس السلطة خلال الاستفتاء الأخير، وتم التعامل رسمياً مع (نعم) كعربون وحيد على ولاء المواطن للدولة وأحقيته في العيش في كنفها والتمتع بالحقوق، وهذا هو الذي دفع وسائل الإعلام العمومية إلى نشر صور عمال مضربين يرفعون -بعد فاتح يوليوز بالمنطقة الشرقية- بالإضافة إلى لافتات المطالب لافتة يؤكدون فيها تصويتهم بنعم. أما مدى ملاءمة التظاهر بعد الاستفتاء، فهي قضية تهم في النهاية جانب المتظاهرين، فهم الذين يقدرون سياسيا هذه الملاءمة، والذي لا يشاطرهم التقدير يمتنع عن التظاهر أو يتظاهر دفاعاً عن موقفه بدون أن يعرقل مادياً حق المتظاهرين الآخرين. 3- الخطاب الذي يذهب إلى أن حركة 20 فبراير أصبحت هي جماعة العدل والإحسان، والجماعة أصبحت هي حركة 20 فبراير، لا يقدم دليلاً على ذلك. فليس في تطور خطاب الحركة ومسلكيات أعضائها وشعاراتها وطريقة اشتغالها والأسلوب الديمقراطي في اتخاذ قراراتها، ما يفيد أنها أصبحت أداة في يد جماعة الشيخ عبد السلام ياسين. والذي يتابعون نشاط الحركة من الداخل يعرفون مثلا أن مقترح التظاهر في الأحياء الشعبية لم يصدر عن شباب الحركة، وأن هذه الأخيرة تواصل التظاهر يوم الأحد كحركة تعددية منفتحة ولم ترفع شعارات دينية أو مناهضة لديانة من الديانات. حركة 20 فبراير جمعت حشداً من الشباب الذي كان الخطاب السائد يوحي بأنه غير موجود بين ظهرانينا، هؤلاء الشباب مفخرة لبلادنا، فهم قرروا عدم التظاهر في فاتح يوليوز حتى لا يشوشوا على حق المواطنين في المشاركة في الاقتراع، ونظموا حملات تنظيف الأحياء والتبرع بالدم، وتوزيع الورود على رجال الأمن، وقرروا رفض التظاهر يوم عيد العرش باعتباره مناسبة وطنية، وأَلَّفوا سلاسل بشرية لحماية الممتلكات العامة والخاصة، وامتنعوا عن الرد على العنف بالعنف واختاروا كلما تم تعنيفهم الرد برفع شعار (سلمية سلمية، لا حجرة لا جنوية). لكن البعض يريد أن يوحي للمغاربة بأن حركة 20 فبراير هي نقيض للاستقرار، بينما الحركة تطالب بالديمقراطية، ولا يمكن أن تكون الديمقراطية نقيضا للاستقرار. إن للدولة مشكلة مع جماعة العدل والإحسان، ومثل هذه المشكلة تُحَلُّ في سياق متطلبات الانتقال الديمقراطي. ولا يُعقل أن تؤدي حركة 20 فبراير ثمن تلك المشكلة. 4- القول باحتضار حركة 20 فبراير، وتراجع قوتها ونفوذها وتقلص إشعاعها بسبب تناقضاتها الداخلية وتناقضاتها مع عدد من فئات الشعب، لا يراعي شدة الهجمة التي استهدفت الحركة وصنوف التضييق الذي تعرضت له. الحركة لازالت تجند مئات الآلاف المواطنين كل شهر، وفي أغلب المدن المغربية الكبرى. لقد تراوحت نقط نزول الحركة إلى الشارع ما بين 40 إلى 106 نقطة جغرافية، وشهدت الحركة توافد فئات جديدة. ومجرد استمرار حركة ووُجهت بأشكال قاسية للاضطهاد هو في حد ذاته معجزة. هناك تناقضات في جسم الحركة أدت إلى انشقاقها في مراكش مثلاً، لكنها على العموم استطاعت حتى الآن -ولا ندري ما الذي سيحصل في المستقبل- أن تحافظ على قدر كبير من التماسك والفعالية والحضور المستمر. هناك من أشار إلى غياب بعض الرموز الفنية وبعض رجال المال والأعمال والأطر العليا عن تظاهرات الحركة، لكنه لم يعدد أدوات المنع والتهديد التي طالت هؤلاء الغائبين. قال ذ عمر بلافريج في قناة عمومية : "كدت أحمل رضيعي إلى أحد تظاهرات 20 فبراير، التي واجهها الأمن بعنف شديد !" 5- الذين يروجون لمقولة أن الاستفتاء الدستوري كان خطوة إلى الأمام في المسار الديمقراطي يحصرون نظرهم في بعض إيجابيات النص، ولا ينطلقون في تقييمهم من النظر إلى كل الظروف المحيطة بالنص، بينما الحرية كل لا يتجزأ. في بعض جوانب النص هناك احتفاء أحيانا بالحرية، لكن في مجريات الاستفتاء كان هناك مس جسيم بالحرية، واللحظة يتعين أن تُقرأ في ضوء تفاعل كل عناصرها. إن استنجاد أجهزة الدولة بوسائل عتيقة مستخرجة من رفوف الماضي دليل مخيف على حضور هذا الماضي، وعلى استمرار خطر العودة إلى نقطة الصفر. وهذا وحده كان يتطلب وقفة جادة للتأمل والتفكير. 6- بصدد القمع الموجه ضد حركة 20 فبراير، يحاول الخطاب الرسمي تقديمه كدفاع مشروع عن مصالح مشروعة، فخصوم الحركة حسب هذا الخطاب هم تجار تضررت تجارتهم، وسكان أحياء شعبية يرفضون المس بالطمأنينة في أحيائهم، ومستقلون غيورون على الديمقراطية داخل الحركة، ومؤيدون للدستور، لكن الجزء من الصورة الذي يتم تغييبه في أحيان كثيرة هو أن هؤلاء لم يكونوا محتاجين إلى حافلات و"هوندات" وهراوات وسكاكين ومنصات تُقام في مواعيد وأمكنة المظاهرات، للتعبير عن مواقفهم. وإذا كان الحق في التظاهر حقا دستوريا فهل هناك حق دستوري اسمه الحق في المنع المادي للتظاهر، ومن هو يا ترى صاحب المصلحة والعقل المدبر لهذه العمليات المتناسقة التي تُوَجَّهُ ضد حركة 20 فبراير. من يصدق أن كل هذا "التناسق" جاء عفوا. 7- تهويل مآل الثورتين في تونس ومصر، وتقديم مآل الربيع العربي كفصل ممهور بالدم والاقتتال والفرقة والفوضى والخراب الاقتصادي، يرمي إلى تخويف الناس في المغرب من حركة التظاهر لأن مآلها الحتمي في النهاية هو العنف والدمار. لكن سواء في تونس أو مصر، هناك سلطة غير متنازع حولها، وزخم نضالي مستمر، وجهاز تتبع لمطالب الثورة، وأجندة اقتراعية. فأياً كان المسار، فهذه في حد ذاتها عناصر إيجابية. ونحن الذين لم نقل باستنساخ الثورتين التونسية والمصرية في المغرب، نطرح السؤال عن مآل ترتيبنا في سلم الديمقراطية إذا نجح حراك المنطقة في حصول انتقالات فعلية