لا بد أن نميز بين نمطين من الوعي الثقافي ، ينتج كل منهما عن نوع الثقافة المستحوذة بالقدر الذي يسهم في إعادة إنتاجها وإشاعتها وترسيخها. الأول وعي ماضوي ملتبس، والثاني وعي مستقبلي استشرافي. الأول وعي حنيني، نقلي، استرجاعي، يحاول أن يجر الحياة إلى الوراء، وذلك على نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالا غائبا عن الواقع وليس عنصرا تكوينيا من عناصره الحيوية. وذلك وعي يتمثل في نزعات جامدة تقاوم التطور على المستوى الفردي والجماعي، وترفض التقدم، وتحول دون النظر النقدي إلى عناصر الماضي التي يمكن أن تتحول إلى عناصر للمستقبل، وما يؤدي إليه انتشار هذه النزعات هو تغليب سؤال الماضي على سؤال المستقبل، وتهديد محاولات البحث عن وعود المستقبل. وفي الوقت نفسه، حصر حركة الفكر الفردي والجماعي في اتجاه فعل التكرار والاستعادة الذي لا يعرف سوى الحركة إلى الوراء. والمظهر العملي لهذا الوعي هو النفور من الرؤى التي تشغل نفسها بسؤال المستقبل، أو تضع المستقبل نفسه موضع المساءلة، وذلك مقابل الاحتفاء بسيرورات من الممارسات المهووسة بسؤال الماضي، أو تقليد بعض، حضاراته التي تتحول إلى ما يشبه المركز المطلق للحضور أو الأصل المحتذى للإتباع. والنتيجة هي قياس كل شيء علي الماضي، والعودة بكل جديد إلى أصل يبرره من القديم، والنظر إلى التغير في ريبة، وإلى التجدد بعين الاتهام، ومن ثم عدم التمييز بين عصور الماضي نفسها، وعدم الوعي بالاختلاف الجذري بين الماضي الذي يصلح أساسا للانطلاق صوب المستقبل، والماضي الذي انتهى عهده ولم يعد صالحاً لا للحاضر أو المستقبل. وآليات هذا الوعي الماضوي في المعرفة هي النقل الذي يعني إلغاء العقل، والنفور من توتر السؤال الذي يضع الأفكار الإنسانية والمسلمات الاجتماعية موضع المساءلة. فما يمكن أن نعرفه في المستقبل ليس سوى تكرار لما سبق أن عرفه غيرنا في الماضي، وكما يترتب على هذا النوع من الوعي غلبة مفردات الماضي الخطاب الاجتماعي وممارساته، وهيمنة هذه المفردات بما يستبعد نقائضها ويقصيها عن المجالات التداولية للغة الثقافة، فإن دهشة هذا الوعي المقترنة بعجزه عن مواجهة كوارث الواقع أو متغيراته الداخلية والخارجية هي النتيجة الحتمية لما ينتجه هذا الوعي من خطاب معرفي وحيد الاتجاه، لا يتداول إلا ما ينفي قدرات التنبؤ والتوقع والاستشراف، فيستأصل إمكانات التفكير الفعلي في احتمالات المستقبل.أما الوعي المستقبلي فهو نقيض الوعي السابق على المستوى الفردي والجمعي، لأنه وعي يقيس على الحاضر في حركته إلى المستقبل الواعد، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصرا من عناصر الحاضر الذي يقبل التحول والتطور والمساءلة، ولذلك فهو وعي محدث بالضرورة، وبدعته بدعة هدى وليست بدعة ضلالة، وتجريبيته هي الوجه الآخر من نسبية اجتهاده، فهو وعي لا يعرف الحلول الجاهزة أو الإجابات المسبقة، ولا يؤمن بالمطلقات الإنسانية التي تشل الحركة، أو الدوائر المغلقة للفكر. وسؤال المستقبل في هذا الوعي علامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أوالانتقال بالمجتمع من أفق التقدم إلى آفاق أخرى أكثر تقدما. وآليات هذا الوعي في المعرفة هي العقل الذي يدرك أهمية العلم في التقدم الإنساني، ويشيع رغبة الكشف التي تظل مرهفة كالسؤال، ومعنى النسبية التي تظل مرفوعة كالشعار. أما علامات خطاباته فهي بروز مفردات المستقبل في المجالات التداولية للغة الثقافة، وهيمنة هذه المفردات بما يدفع إلى صدارة دوال التوقع والاستباق والاستشراف، ومن ثم تأكيد الفعل المتصل والمستمر لصياغة وإعادة صياغة سيناريوهات الأحداث المحتملة والنتائج الممكنة في المستقبل، وذلك على نحو ينفي عن الوعي صفة الاحتكار العاجزة والمراقبة السلبية والرضا الخانع بالمقدور الذي لا يتوقعه. والفارق بين الثقافة المنفتحة والثقافة المنغلقة هو فارق بين ممكنات الوعي الأول والثاني في علاقتهما بمعاني التقدم والتخلف في الثقافة، أعني أن الثقافة المتقدمة هي ثقافة الوعى الذي لا يفصل بين الانشغال بأسئلة المستقبل والاعتراف بحق الاختلاف والتسامح بوصفهما المظهر العملي للتنوع الذي تغتني به الثقافة. ومن هذا المنظور، فإن تقبل الآخر هو الشرط المنطقي لاستيعاب المشاركة ،والإشراك، بوصفهما عنصرين فاعلين في المبدأ الحواري الذي يصل بين مكونات الثقافة المنفتحة، فتقبل المشاركة ،والإشراك، على مستوى الحضور الداخلي هما الأصل في تقبل الآخر على مستوى الحضور الخارجي في الأفق الحواري الذي لا تنغلق به الثقافة على نفسها. وقد تعلمنا من المعيش أن الثقافات المنشغلة بأسئلة المستقبل والمشتغلة به هي الثقافات المتطلعة إلى التحول، المنفتحة على الشراكة الحقيقية، المتقبلة للاختلاف، المتفاعلة مع الآخر، وأنه بالقدر الذي تعي به الثقافة المنفتحة أسئلة المستقبل، من حيث هي عناصر حضور فاعل في تكوينها، تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتي، وبقدر غياب أسئلة المستقبل عن الثقافة، وانشغالها عنه بنقائضه، تتصاعد درجة الإتباع في هذه الثقافة، وتتقوقع في مدار مغلق، يحول بينها والتطلع إلى ممكنات الغد الآتي بكل ألوان الاستشراف. ولذلك فإن تخلف الثقافة هو الوجه الآخر لانغلاق وعيها الذي يستبدل بحق الاختلاف صرامة الاجتماع، وبالتسامح التعصب، وبسؤال المستقبل أسئلة الماضي الذي يتطلع إلى صورته في كل غد ممكن. وعندما نتأمل أسئلة المستقبل في الثقافة، من منظور هذه العلاقات، فان حضور هذه الأسئلة نفسها أو غيابها تغدو لا تنطوي دلالتها على الشروط الفاعلة في علاقات إنتاج الثقافة وعمليات استقبالها، وذلك من الرؤية التي تفصح عن شيوع مفاهيم بعينها عن الزمن والتاريخ من ناحية، وعن الإنسان وقدرته الفاعلة أو غير الفاعلة هي الوجود من ناحية ثانية. وهناك فارق بين الثقافة التي تشغل بمعاني التقدم والتطور، غير منفصلة عن القدرة الخلاقة للفعل الإنساني المتحرر في الوجود، وتؤسس لإشاعة هذه المعاني في علاقات استشراف المستقبل الواعد بوصفها المعاني المهيمنة على غيرها من المعاني الموازية أو حتى المعارضة، والثقافة التي تشتغل بمعاني الأحياء والتناسخ والمحاكاة والتقليد، غير المنفصلة عن معاني الجبر التي تجمع ما بين الأزمان المقدورة والإنسان المحروم من الحضور الفاعل في الوجود. وهكذا نتحدث عن الصفات المميزة لهذه الثقافة أوتلك من الثقافات الإنسانية، فنقرن ثقافة بالتغير مقابل غيرها الذي نقرنه بالثبات، ونصل الصفة العامة للتغير بشروط تاريخية معينة، تستجيب إليها الثقافة بحيوية التحول وثراء التنوع ورغبة الابتداع. في موازاة مرونة التقبل وتسامح الحوار وتوتر الأسئلة. وفي الوقت نفسه، نصل الصفات العامة للثبات بشروط تاريخية مناقضة، تستجيب إليها الثقافة بهيمنة الصوت الواحد وخنوع الأتباع، في موازاة التعصب وقمع المشاركة. وبقدر ما يمكن أن تتحقق الثنائية المتعارضة بين الثقافات على المستوى الأفقي للمعاصرة في علاقات المجتمعات المتقدمة والمتخلفة. في هذا الزمن التاريخي أو ذاك، فإنها تتحقق على المستوى العمودي للتعاقب التاريخي في الثقافة الواحدة، وذلك حين تتقلب هذه الثقافة بين أحوال الثبات والمتغير بفعل عوامل تاريخية متغيرة. وبرغم أنه من الضروري أن نحترس في التعامل مع الثقافات، ولا نتعامل مع أية ثقافة بوصفها كتلة مصمتة خالية من التنوع أو التباين أو الصراع، فالثقافة كالواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي تجسده بالقدر الذي يصوغها - حقل لا ينطوي على التجانس - ويعكس بقدر ما يوازي أو يجسد الحركة غير المتجانسة لعناصر الواقع الفاعلة والمنفعلة في زمنها التاريخي الذي يمكن أن يكون زمنا للتحول والتغير أو زمنا للثبات والجمود. وسواء كانت الثقافة منتسبة إلى هذا الزمن أو ذاك فإن نسيجها العلائقي يظل منطويا على عناصر متباينة، تؤكد التنوع الذي يدل على اختلاف الاتجاهات، ولكن الحقل غير المتجانس للثقافة لا يمنع من الحديث عن توجهها العام، أو الإشارة إلى الصفات الإجمالية لمنظورها الكلي في رؤيتها للعالم، وذلك من حيث علاقة العناصر التكوينية بعنصر مهيمن من عناصرها، عنصر يكتسب قدرة خاصة حاسمة على أن يفرض سماته، وملامحه، ويدفع ببقية العناصر في هذا الاتجاه أو ذاك نتيجة عوامل تاريخية معينة، تستجيب إليها الثقافة على مستوى الحضور العلائقي للعناصر التكوينية.