أثار نواب المعارضة في البرلمان صفقة القطار السريع «التي جي في» التي وقعها وزير التجهيز والنقل كريم غلاب مع شركة «ألستوم» الفرنسية، وأشاروا إلى أن مبلغ الصفقة ضخم ومبالغ فيه بالمقارنة مع موازنة بلد فقير ذي اقتصاد هش كالمغرب. وزير التجهيز والنقل مدعوما بوزير المالية، الذي يشتكي من عدم قدرة الدولة على دفع زيادة 500 درهم في الرواتب التي تطالب بها النقابات، حاولا جهد المستطاع إظهار فائدة القطارات فائقة السرعة في بلاد كل شيء فيها يسير سير الحلزون. والواقع أننا كنا سنكون أكثر اقتناعا بجدية المعارضة البرلمانية في طرح هذا الموضوع لو أنها ركزت على الظروف التي مرت فيها هذه الصفقة، والتي تزامنت مع زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي إلى المغرب. خصوصا عندما منحت صفقة «التي جي في» بقيمة مليارين من الأورو، أي حوالي 23 مليار درهم، لشركة فرنسية تجر خلفها أبحاثا قضائية واتهامات بالارتشاء وصلت إلى القضاء. ويبدو أن مديرة غلاب المركزية المحظوظة، السيدة بورارة، لا تشتري لوزيرها الصحافة الاقتصادية الدولية. لأنها لو فعلت كانت ستكتشف أن شركة «ألستوم» كانت إلى حدود السنوات القليلة الماضية على شفى الإفلاس، لولا أن الدولة الفرنسية تدخلت لإنقاذها بتمكينها من بعض الصفقات لكي تظل على قيد الحياة. هكذا على الأقل «تبرد» مدام بورارة العشرين مليون سنتيم التي تقاضتها كمنحة على مساهمتها الفعالة في الحملة الانتخابية لكرمي غلاب بسباتة، والتي استعملت فيها فاكسات وزارة التجهيز لإرسال الدعوات. وبالنسبة لساركوزي لم تكن عودته إلى قصره الرئاسي بعقد صفقة «التي جي في» تحت ذراعه من المغرب إلا شكل من أشكال الاستماتة في الدفاع عن بقاء هذه الشركة على قيد الحياة. وقد أحيانا الله حتى أصبحنا نرى كيف تعول دولة صناعية ونووية من أغنى دول العالم على ميزانية دولة فقيرة كالمغرب ليس لديها من طاقة أخرى غير الشفوي لكي تنقذ شركاتها من الإفلاس، نحن الذين لازالت قطاراتنا تعشش فيها الحشرات وتتوقف في منتصف الطريق ويختنق داخلها المسافرون بالحرارة صيفا ويتجمدون بالبرد شتاء، نطمح لكي تكون لدينا قطارات فائقة السرعة بميزانية خرافية تكفي لتمويل الحوار الاجتماعي المتوقف حاليا وتجنيب البلاد كارثة الإضرابات القادمة في الطريق. وإذا كان نواب المعارضة في البرلمان لازالوا يفكرون في مناقشة صفقة «التي جي في» مع وزير التجهيز والنقل، يمكن أن نفيدهم ببعض «النويطات» لكي يطرحوها على غلاب ويطالبوه بإجابات عنها. حسب جريدة «الوالت ستريت جورنال»، وهذه ليس لأحمد حرزني ما يقول فيها لأنها بالنسبة لرجال الأعمال تعتبر بمثابة الإنجيل، فشركة «ألستوم» يمكن أن تكون قد دفعت ملايين الدولارات من أجل الفوز بعقود ما بين 1995 و2003، عندما كان مديرها العام هو «بيير بيلجي». كما تضيف الجريدة الأمريكية أن الشركة الفرنسية دفعت 6،8 مليون دولار من أجل تسهيل الحصول على عقد بقيمة 45 مليون دولار تتعهد الشركة بموجبه بإنجاز توسيع ميترو ساو باولو بالبرازيل. وبينما تندلع كل هذه الفضائح في البرازيل، تفتح العدالة السويسرية يوم السابع من ماي الماضي بحثا قضائيا حول احتمال تورط الشركة الفرنسية في دفع رشاوى من أجل الفوز بصفقات في آسيا وأمريكا اللاتينية. أما في باريس فقد فتحت المحكمة بحثا قضائيا ضد مجهول شهر نونبر الماضي بتهمة «رشوة موظفين عموميين أجانب» و«الشطط في استعمال الملك العمومي»، بعدما تم إشعارها من طرف العدالة السويسرية خلال ماي من السنة الماضية. وهكذا فالشركة التي تعاقد معها كريم غلاب وزير التجهيز بغلاف مالي ضخم يصل إلى 23 مليار درهم، (2300 مليار سنتيم بالنسبة للذين يحبون الحساب بالسنتيم) توجد اليوم وسط إعصار قضائي يعرضها للبحث من طرف قضاة ثلاث دول هي البرازيل وفرنسا وسوسيرا، بتهمة تقديم رشاوى لموظفين عموميين من أجل تسهيل حصولها على الصفقات. هذه الشركة الفرنسية المشكوك في أمرها في الخارج والمحظوظة في المغرب لم تفز فقط بصفقة «التي جي في» التي أهداها إياها غلاب دون إخضاعها لقانون المنافسة بفتح طلبات عروض لكي تشارك كل الشركات العالمية المتخصصة في صناعة القطارات السريعة، وعلى رأسها الإسبانية التي تنتمي إلى بلد سيصبح بعد سنة أول بلد لديه أطول شبكة للسكك الحديدية في العالم، بل فازت، بعد مشاركتها في طلب عروض دولي هذه المرة، بصفقة «الترام واي» الذي سيربط بين سلا والرباط. إن مجرد ورود اسم هذه الشركة الفرنسية ضمن جرائد اقتصادية ذات صيت عالمي كجريدة «الوالت سريت جورنال» كمشتبه فيها بتهمة تقديم رشاوى لموظفين عموميين في بعض البلدان التي تفوز بصفقاتها، كاف لكي يجعلنا نطرح أسئلة حول حماس البعض الزائد لتبرير حاجة المغرب في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة والخانقة لمشروع ضخم ومكلف كمشروع «التي جي في». وليس صفقة القطارات السريعة وحدها التي تكلف خزينة الدولة ما لا طاقة لها به، بل هناك مشاريع أخرى اشتراها غلاب بالملايير و«غملها» في وزارته. لا يجب أن ننسى في هذا الإطار أن السيد كريم غلاب الذي اشترى مدونة السير من «كابيني» سويدي بمئات الملايين، لم يستطع إلى حدود اليوم أن يقنع ممثلي قطاع النقل بجدواها. وليس هناك في الأفق ما يبشر بأن هذه المدونة المكلفة التي دفعت الوزارة «ثمنها» ستطبق في القريب العاجل. كما لا يجب أن ننسى أن السيد كريم غلاب أنفق من ميزانية الوزارة غلافا ماليا قدره 134 مليون درهم كمصاريف لاقتناء 450 رادارا، منها 220 رادارا متنقلا و155 رادارا ثابتا و79 وحدة متنقلة للرادار. ومن المنتظر أن يقفز هذا الغلاف المالي سنة 2009 إلى 400 مليون درهم. كل هذه الميزانية الضخمة خرجت من جيوب دافعي الضرائب، ومع ذلك لازالت حوادث السير في ارتفاع وضحاياها في ازدياد مستمر. والسبب هو أن كل هذه الرادارات التي اشتراها كريم غلاب للتخفيف من حوادث السير توجد اليوم في فترة بطالة. لأن سعادة الوزير طبق المثل المغربي الذي يقول «سبق العصا قبل الغنم»، بحيث عقد الصفقة واشترى الرادارات بينما القانون المنظم لعملها لم يصادق عليه بعد في البرلمان. وعلى كريم غلاب أن يستفيد من الجواب الذي قاله الفرنسي دومينيك دروي، مدير شركة «هولسيم» عندما شجعه أحدهم على الاستثمار في إنتاج الطاقة الريحية في المغرب، بأنه لا يستطيع أن يصنع مثل ما صنعته شركة «نافيرا» التابعة لمجموعة «أونا» بحيث ينتج 100 ألف واط من هذه الطاقة مطمئنا إلى أن القانون سيمر في البرلمان. والدرس البليغ الذي يجب أن يستفيد منه غلاب من خلال جواب مدير «هولسيم» هو أنه ليس من الحكمة اقتناء الحوت في البحر. يجب انتظار مرور القوانين قبل توقيع الصفقات. اللهم إذا كان غلاب يشكو من «خفة اليد» بحيث «تأكله» أصابعه ولا يستطيع أن يمتنع عن استعمالها في التوقيع على الصفقات سواء مرت القوانين في البرلمان أم لم تمر. وعلى رأي إخواننا المصريين «يموت الزمار وأصابعو ترقص».