للشعب الفلسطينيّ على العرب حقُّ الاعتذار عمَّا أَصَابَهُ منهم من فَادحِ الكبائر منذ ابْتُلِيَ بنكبة اغتصاب الأرض والوطن: والنكبةُ في جملةِ تلك الكبائر. أقلُّ مَالَهُ عليهم من حقوق أن يمنحوه هذا الاعتذارَ منهم علَّه يُخَفِّفُ من وطأةِ جرح نفسيّ غائِرِ لا يَقْبَل النسيان. قد لا يَعْنيه كثيرا أن تعتذر له إسرائيل عن جرائهما، إمّا لأنه لا ينتظر مثل ذلك الاعتذار من دولةٍ قد يشكّل (ذلك الاعتذار منها) نقضًا لشرعية وجودها، أو لأنه قد يجد في اعتذارها قيدًا يكبح حقَّه في استعادة حقٍّ له بدأ في عام 1948 ولا يُريدُ لَهُ أن يتعرَّض للتزوير بشهادة ميلاد مؤرَّخَة في 5 يونيو 1967، أو لأي سببٍ آخر. لكنه –قطعا- مَعْنيٌّ تماما بأن يتلقى مثل هذا الاعتذار من بني جلدته: ممَّن ثابروا على وعده بالخلاص ولسانُهم يلهج بالمقولة المأثورة في صحائفهم: قضيةُ فلسطين قضيةٌ عربية قبل أن تكون فلسطينية. نعم، له عليهم حقُّ الاعتذار. أَلَمْ تَرَ كيف فَعَل العربُ بالفلسطينيين؟ تركوهُم يواجِهُون قدَرَهُم وحيدين منذ «وعد بلفور» وحتى قيام الدولة اليهودية على أرضهم. ثلاثون عاما لم يُلْقِ أحدٌ منهم إليهم بالاً: صَرَخوا وانتفضوا وقاتَلوا من دون وَلِيٍّ ولا نصير. وحين وقعتِ الواقعة، أرسلتِ العرب «جيوشها» إلى فلسطين من أجل «الإنقاذ». كانت أسلحتُها فاسدة وسياساتُها أشدَّ فسادًا. ولم تقاتل في فلسطين من أجل فلسطين، وإنما تقاتَلَتْ –في ما بينها- على فلسطين! وما اسْتَنْقذَت شبرا واحدا، مما سُرْق! إذا لم يكن الاعتذار عن عدم النصرة واردا، فلا أقل من أن تعتذر العربُ عن مساهمتها في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين من طريق تسهيلها هجرة اليهود العرب إليها ومدّها إسرائيل بموارد بشرية ما كان يدور في خلدها أن تكُون أمدادُها يسيرة إلى هذا الحدّ! هل ينسى الفلسطينيون ذلك إن «نسوا» خذلان بني جدلتهم لهم؟ ولقد تعاظمتِ الكبائر التي تفرض ذلك الاعتذار: بات على عشرات الآلاف من اللاجئين أن يجدوا أنفسهم في العراء على الحدود العربية، ثم سرعان ما تكَفَّل العقلُ الأمنيّ العربيّ بأمرهم، فَوُضِعوا في غيتوهات محروسة، وأُحِيطوا بترسانة هائلة من القوانين المانعة إياهم من حيازة أبسط الحقوق المدنية والإنسانية التي تكفلها شرائع الأرض والسماء. سِيموُا خَسْفًا ورُوقِبُوا في الحلّ والترحال وأُنْشِئَتْ لاستمزاج نواياهم أجهزة وأجناد، وخاصة بعد إذْ ملّوا الانتظار وامتشقوا السلاح، وباتوا يملكون أن يفتحوا المعارك من حدود أقفلتها السياسات العربية. وما كان ذلك كلَّ شيء في سيرة محنة الفلسطينيين مع بني جلدتهم. كان عليهم أن يتلقّوا وجْباتٍ متعاقبة من العقاب العربي على سوء امتثالهم لإرادة الحاكم بأمره والتزاماته الثابتة التي لا تُنْقَض مع مَن طالبوه بوضع الفلسطينيّ تحت الحراسة. وكم أوغلت جيوش العرب ومليشياتها في الدّم الفلسطيني في مشاهد اختلطت فيها العناوين وشخوص المسرح الدّموي والمعايير فَما بتََّ تعرفُ فيها الأخ من العدوّ والحليفَ من الخصم، حتى أن من فاضت أرواحهم من الفلسطينيين في «أيام العرب» المعاصرة ليسوا يقلّون عددا عمّن أَفْنتْهُم حروب إسرائيل وجرائم قتلها اليوميّ. أما حينما أنجزتِ العرب مهمتها «المقدسة» بنزع سلاح الفلسطيني –باسم المعركة- وتبديد غضبه في الآفاق والمنافي بعيدا عن حدود الوطن، فقد انتدبت سياستَها للنهوض بما لم تَقْوَ عليه العدوانية الإسرائيلية: جَرّ الفلسطيني ذليلا إلى طاولة المفاوضات وإحاطة لاءاته الوطنية بالتحريم والتجريم والضغط، وإفهامه بأن عليه أن يقبل بما هو معروض عليه، وأن ينسى، ويتواضع في المطالب.. وفي التذكُّر! قد يذكّرنا البعض بعدم جواز التعميم وإطلاق عبارة العرب على غير ضابطٍ أو تحديد، حيث لا يصحّ أن تؤخَذ الشعوب بجريرة الأنظمة، لا بأس، نوافق على التمييز. ولكن، هل يمنع ذلك أحدا منّا، أحزابا أو مثقفين أو مواطنين، من إعلان الاعتذار عن مسؤوليتنا –حتى وإن لم تكن مباشرة- عما لحقَ الشعب الفلسطيني من أذى باسم العروبة أو باسم الوطنيات (العربية) الأخرى المصطدمة بالوطنية الفلسطينية؟ لقد اعتذر الشعب الألماني عن تاريخه النازي حتى وإن لم يكن الألمان جميعا مسؤولين مسؤولية مباشرة عن سياسات النظام النازي، وهكذا تكون المواقف الحضارية، فَلِم لا نمارس هذا الاعتذار الذي لن ينال من كرامة أحد منّا، والذي لن يكون في أسوإ أحوال استعماله أكثر من تَطَهُّرٍ أخلاقيّ ونفسيّ؟ وماذا عن تضحيات الجيوش والمقاومات الشعبية العربية؟ سيقول البعض: هل نُهْدرها جميعا بشطبةِ قلم غاضب؟ لا أحد يجحدها نقول. لكنها غيضٌ شريفٌ من فيْض تعيس. إذ ماذا تمثّل يومياتُها القليلة في بحر تاريخ طويل من الخذلان العربي لهذا الشعب الجريح؟ ثم إن أكثر حروب جيوش العرب إنما خيضت لأهداف أخرى ليس منها هدف تحرير فلسطين. بعضُها خاضَتْهُ لاسترداد أراضيها المحتلة الواقعة خارج حدود فلسطين. وبعضُها الثاني خاضَتْهُ لتحريك التسوية! حتى المقاومات نفسها لم تخرُج تماما من منطقة الالتباس بين وطنيَّتها المعلنة وقوميتها أو (فلسطينيتها) المُضْمَرَة، فما شهِدنا منها مَن يَحْمل السلاح من أجل فلسطين إلاّ أن تكون عبارة «من أجل فلسطين» في جملة المُحَسِّنات البلاغية في خطاب الوطنية الصافية لديه. بعد كل الذي جرى في هذه الأعوام الستين، لن يكون من حقّ أيّ عربيّ أن ينزعج إن تناهى إلى سماعه سؤالُ عجوزٍ فلسطينية حانقة أو طفل فلسطيني بلغَهُ اليأس على صِغَرٍ: ماذا قدّم العرب لنا؟ لأنه –بمنتهى البساطة- سؤالٌ مشروعٌ ووجيه. وهو كذلك (مشروع ووجيه) حتى بالنسبة إلى الذين زعموا أن قضية فلسطين في قلب مشروعهم السياسي: وطنيين وقوميين وماركسيين وإسلاميين. هل كان الثلاثة الأوّلون معنيين بمسألة السلطة والوصول إليها بدرجة أقل أو نظيرَ عنايتهم بمسألة فلسطين؟ أذكاهم تَحَايل على المسألة بالقول إن الطريق إلى فلسطين تمر عبر هذه العاصمة أو تلك قبل أن يضلّ طريقَ فلسطين وطريق العاصمة نفسِها! أما مقاتِلة التيار الإسلامي، فكانت نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا ونيروبي ودار السلام... أقرب إليهم وإلى بطولاتهم من تل أبيب: التي لم يرمونها بطائرة أو صاروخ أو حتى حجر، أي والله ولو حجر. لابدَّ من الاعتذار للشعب الفلسطيني إذن، أنا على الأقل أعتذر شخصيّا عن تقصيري.