أحسن شيء يمكن أن يصنعه الذين يتسببون بأخطائهم في قتل المواطنين هو أن يغلقوا أفواههم ويمتنعوا عن إعطاء التصريحات للصحافة، حتى لا يزيدوا الطين بلة. وكل من قرأ البلاغ الذي نشرته شركة حافلات «مدينة بيس» تشرح فيه كيف اقتحمت إحدى حافلاتها المجنونة باب مدرسة بسيدي مومن ودهست النساء والأطفال وقتلت من قتلت وعطبت من عطبت، شعر بأن مالكي هذه الشركة يضحكون على ذقون المغاربة. فحسب البلاغ لا يتعلق الأمر سوى بحادثة عادية لا دخل لمصالحها التقنية في مسؤوليتها. فالحافلة خضعت للفحوصات المعتادة، والحادثة قدرها الله على عباده. وختمت الشركة بلاغها بآية كريمة تقول «وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإن إليه راجعون»، ويعودون إلى بيوتهم راضين مرضيين لأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. يعني أن هؤلاء الضحايا الذين دهستهم حافلة شركة «مدينة بيس» ما عليهم سوى أن يصبروا على مصيبتهم وأن يدفنوا موتاهم وهم يرددون إن لله وإن إليهم راجعون. والشيء نفسه قاله ابن صاحب المعمل الذي احترق داخله حتى الموت خمسة وخمسون مواطنا مغربيا. فقد قال بأن ما وقع قضاء وقدر، وأن الله هو الذي أراد ذلك. أما هو فلا مسؤولية له فيما وقع، لأن المسؤول هو العامل الذي كان يدخن داخل المعمل، ويتقاسم المسؤولية مع رجال المطافئ الذين جاؤوا متأخرين بساعة ولم يستطيعوا الدخول إلا بعد ساعة أخرى من وصولهم بسبب النوافذ الحديدية. ونسي ابن صاحب المعمل أن يشير إلى أن الذي جعل دخول رجال المطافئ مستحيلا إلى المعمل إلا بعد لجوئهم إلى تحطيم الجدار، هو وضعه لإطارات حديدية في النوافذ، في تجاوز صارخ للقانون. لكن بما أن ما وقع كله من عند الله فلا مانع من أن يقول ابن صاحب المعمل ما يحلو له. وأحسن شيء يمكن أن يصنعه المسؤولون المحليون والسلطات الإقليمية بعد حدوث كوارث مثل هذه هو أن يمتنعوا عن تقديم مساعدات للضحايا، إذا كانت هذه المساعدات تقترب من التشفي أكثر منها إلى التضامن. وقد شعرت بالخجل من كوني مغربيا عندما رأيت محمد ساجد عمدة أغنى مدينة في شمال إفريقيا يسلم عائلات الضحايا الخمسة والخمسين مبلغ عشرة آلاف درهم للعائلة. هل وصلت الروح المغربية إلى هذا الحد المنحط من التسعيرة. وكأن هذه الأوقات العصيبة التي يجتازها المغاربة تتحول عند البعض إلى موسم للصولد، يعلنون فيها عن تخفيضات مغربية في الأرواح البشرية. عشرة آلاف درهم عن كل جسد احترق حتى الموت غدرا في معمل يتحمل مجلس المدينة مسؤوليته في التجاوزات القانونية التي كان يشتغل فيها. هل هذا هو ثمن التعويض الذي يراه مجلس المدينة مناسبا لكل أولئك الشباب والشابات الذين اغتصب الطمع والجشع والظلم أعمارهم الطرية في واحدة من أفظع حرائق المغرب المعاصر. لم نكن نعرف أن الضرر يمكن أن يقدر بكل هذا «الرخص»، نحن الذين رأينا كيف طالبنا القاضي العلوي بدفع 600 مليون سنتيم كتعويض عن الضرر لأربعة نواب وكلاء الملك، بسبب مقال لم نذكر أحدهم فيه بالاسم. إذا كان الضرر الناتج عن كلمة يفوق مئات المرات الضرر المسبب للقتل، فإن لوائح التعويضات في المحاكم يجب أن يشملها التعديل. فلا معنى لأن يكون الضرر الذي تتسبب فيه ألسنة الصحافيين أخطر وأغلى من الضرر الذي تتسبب فيه ألسنة اللهب. لقد كنت أنتظر أن ترفض عائلات الضحايا تسلم هذا المبلغ الحقير وأن يعيدوه إلى صندوق المجلس، حفظا لما تبقى من كرامة أمواتهم. لكن قبح الله الفقر، وقبح الله الذين يستغلون هذا الفقر لكي يظهروا في نشرات الأخبار في التلفزيون يسلمون هذه المبالغ التافهة بافتخار لعائلات الضحايا. مع أنهم يعرفون أن عشرة آلاف درهم التي يقايضون بها روح كل من احترق بسبب إغماضهم العين عن كوارث المناطق الصناعية، لا تكفيهم حتى لحصة تدخين السيغار الفاخر في جلسات الأنس. وإذا كان مجلس مدينة الدارالبيضاء، الذي وصلت مداخليه السنة الماضية إلى 198 مليار سنتيم، قد حدد تسعيرة الروح البشرية في عشرة آلاف درهم للروح، فإن مجلس العمالة الذي يضم كل عمالات الدارالبيضاء والذي يترأسه الوالي القباج، لم يصرف للضحايا حتى نصف المبلغ الذي صرفه عمدة المدينة. واختار أن يمنح لكل عائلة منكوبة خنشة من الطحين وبيدوزة من الزيت وعلبة من الشاي وقوالب السكر. تخيلوا كيف يجبر الوالي القباج خاطر ضحايا أخطر محرقة في تاريخ المغرب. بالزيت والشاي والقوالب. وعندما انتقد البعض هذا الاحتقار الذي تعامل به مجلس العمالة مع الضحايا، قال أحد الفاهمين الذين لا نعدم وجودهم في كل عمالة، بأن المخزن يريد أن يعزي الضحايا على الطريقة المغربية التقليدية، أي بالقوالب. وعندما نتأمل قليلا من الرابح من وراء هذه الصفقة التي صرف من أجلها مجلس المدينة ميزانية مستعجلة، نعثر على شركة للزيوت اسمها «لوسيور كريسطال» وشركة للسكر اسمها «كوزيمار»، وشركات أخرى تابعة لمجموعة «أونا» التي يسهر منير الماجدي على تسمين أرباحها. وهي الشركات نفسها التي تتكفل بتوفير الصدقات الغذائية المكونة أساسا من المواد الغذائية للمحتاجين والمنكوبين عبر كل تراب المملكة الشريفة. لذلك فالمبالغ التي تسلمتها عائلات الضحايا من يد العمدة والوالي هي إهانة لأرواح أبنائهم وبناتهم الذين احترقوا تحت أعين مسؤولي التعمير بمجلس المدينة الذي يرأسه العمدة ومجلس العمالة الذي يرأسه الوالي. ولذلك فأقل ما يمكن أن تفعله هذه العائلات المفجوعة في فلذات أكبادها هو أن تعيد هذه الصدقات إلى أصحابها، وتستمر في المطالبة بمحاسبة جميع من تسبب في المحرقة، وتقديمهم إلى العدالة. فالمسؤولية عما وقع تبدأ من صاحب المعمل وتنتهي في وزارة الداخلية. يجب أن يتعلم المغاربة معنى الكرامة والشرف، وعدم الخضوع للمساومات. والأهم من ذلك أنه يجب عليهم ان يختاروا بين أن يكونوا آدميين كما خلقهم الله وكرمهم، وبين أن يكونوا مجرد «بخوش» كما يعتبرهم بعض الذين يتحكمون في خبزهم اليومي. وإلا فما على وزارة الداخلية التي تباشر هذه الأيام حملة إصدار بطاقات هوية جديدة سوى أن تفكر في إصدار بطاقات بلون وردي لأبناء العائلات الكريمة، بينما تخصص لقوم «هبش» بطاقات بلون قهوي أو حمري يشبه وجوههم الكالحة. هكذا بمجرد ما يقترف أحد أبناء العائلات الكريمة جريمة أو يتورط في محرقة كمحرقة «ليساسفة»، يتم إخلاء سبيله على الفور بعد تفقد هويته الوردية، حتى لا تضيع الشرطة القضائية والعدالة وقتها، وتضيع معها وقتنا في متابعة مسرحيات وتمثيليات مقرفة.