بقي كل المنتظرين في مطار الخرطوم مشوشين بخصوص الإفراج عن سامي الحاج حتى اللحظة الأخيرة، فالسفارة الأمريكية لا تعطي معلومات واضحة حول وجود سامي ضمن المفرج عنهم من السودانيين الذين ينتظر وصولهم إلى المطار، كما أن الطائرة العسكرية الأمريكية لا يعلم تماما متى ستصل إلى الخرطوم، والانتظار دون معرفة يثير القلق والاضطراب في النفوس، بقي الأمر كذلك حتى حطت الطائرة العسكرية في مطار الخرطوم في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وكان أهم شرط من شروط الأمريكيين هو ألا يسمح لقناة الجزيرة أو كاميراتها بتصوير لحظة هبوط الطائرة أو تصوير المفرج عنهم، وقد أبلغني الزملاء الذين كانوا في انتظار سامي الحاج بأنه رغم تأكيد مصادر رسمية قبل هبوط الطائرة بثلاث ساعات أن سامي الحاج موجود على متنها إلا أن كثيرين ظلوا يكتمون أنفاسهم حتى شاهدوا الجنود الأمريكيين وهو ينزلون سامي الحاج مكبلا وغير قادر على الحركة من على سلم الطائرة، سألت سامي حينما لقيته كيف كانت رحلة الخروج إلى الحرية بعد أكثر من ست سنوات قضاها في غوانتنامو فقال لي: لقد قضينا أكثر من عشرين ساعة في الطائرة، حيث نقلونا أولا إلى قاعدة عسكرية أمريكية يعتقد أنها في العراق فأنزلونا حيث كان معنا أفغان ومغربي، فنقلوا الأفغان إلى طائرة ونحن إلى طائرة هي التي حطت بنا في الخرطوم، وقد كنا معصوبي الأعين معظم الرحلة كما أننا كنا مقيدين من أيدينا وأرجلنا ومقيدين كذلك في الكراسي التي كنا نجلس عليها، كما كنا مقيدين في أرض الطائرة، وأعتقد أن عدد الجنود الأمريكيين الذين كانوا يحيطون بي يزيدون عن ثلاثين جنديا، أما القيد البلاستيكي الذي وضعوه في أيدينا قبل أن ينزلونا من الطائرة فهو رغم قسوته كان حنونا جدا مقارنة بالقيود الحديدية الغليظة التي قيدونا بها طوال الرحلة، وقد رفضت أن أتناول من أيديهم أي طعام أو شراب طوال هذه الرحلة المليئة بالعذاب، فقد نذرت حينما بدأت إضرابي عن الطعام قبل أربعمائة وثمانين يوما ألا أتناول طعاما من أحد إلا من يد زوجتي التي صبرت مع ابني محمد على هذا الأذى، وكانت أول وجبة تناولتها من يد زوجتي، التي وصلت إلى الخرطوم قادمة من الدوحة بعد ثلاث ساعات من وصولي، حيث إن الإفراج عني لم يكن مؤكدا حتى لزوجتي، فقد كانت هناك محاولات لعرقلة الإفراج عني حتى اللحظة الأخيرة، حيث إننا في غوانتنامو كمعتقلين مسجلون على أننا خطرين وكانوا يلبسوننا زيا برتقاليا، وفي حالة الإفراج عنا كانوا يقومون بتغيير هذا الزي بزي آخر أبيض، وقد أشاع الذين يريدون عرقلة الإفراج عني أنني أرفض استبدال الزي البرتقالي بالزي الأبيض، ومن ثم فأنا الذي أرفض الإفراج عني، كل هذا وأنا لا أعلم لكن أحد الضباط جاءني وقال لي: هل صحيح أنك ترفض استبدال الزي البرتقالي بالأبيض حتى يفرج عنك؟ قلت له لم يطلب مني أحد أصلا أن أستبدل الزي البرتقالي بالأبيض، فمن يرفض الحرية ويريد البقاء في هذا الجحيم؟ قال لي: إنهم يقولون إنك ترفض ولهذا جئت لأتأكد منك، إذن سأخبرهم برغبتك، وفعلا ذهب وقال لهم: إن ما تقولونه غير صحيح وهو مستعد لاستبدال ملابسه، فأدركت بالفعل أنه كانت هناك مؤامرة لإبقائي في السجن، حيث جاؤوا بالملابس البيضاء بعد ذلك فاستبدلتها، أما عن أول وجبة تناولتها من يد زوجتي فكانت التمر وماء زمزم أكلته وشربتها بركة حتى يعافيني الله، فقد أنهك جسدي طوال السنوات الماضية». أثناء زيارتي لسامي، رأيت عنده كثيرا من المسؤولين السودانيين، فعلاوة على الرئيس ونائبه، قام كل الوزراء والمسؤولين في الدولة بزيارته، كذلك أثناء زيارتي لرفاقه الذين أفرج عنهم وجدت عندهم كثيرا من المسؤولين والوجهاء كذلك، لكن بعضهم حدثني عن شيء مقلق أعتقد أنه بحاجة إلى دراسة وتمحيص، هو أنهم حقنوا عدة مرات خلال الفترة الأولى من اعتقالهم بأمصال لا يعرفون عنها شيئا، وأنهم كانوا يرفضون ذلك فكان الحراس يقومون بتقييدهم وحقنهم عنوة، وأنهم كانوا يلاحظون تغيرات وتبدلات في أجسادهم بعدها. وقال لي أحدهم إنه أثناء نقاش حاد مع أحد المحققين، قال له هذا المحقق بحدة إنه سيموت في غوانتنامو، حتى وإن قدر له أن يخرج فلن يعيش أكثر من عشر سنوات هو أو أي معتقل آخر، وقد ربط لي بين الأمصال التي أجبروا على أن يحقنوا بها وبين ما أخبره به المحقق، وقال لي نخشى أن تكون سموما بعيدة المدى من أنواع لا يتم اكتشافها، حيث إننا نعاني من أعراض غريبة في أجسادنا. يبدوا أن معاناة معتقلي غوانتنامو لن تنتهي بمجرد الإفراج عنهم، ويبدو أن جرائم الولاياتالمتحدة أكبر من أن تتصور، فإذا كانت معاناة المحاربين القدماء الأمريكيين تتفاقم منذ حرب فيتنام وحرب الخليج الأولى وحتى هذه الحروب القائمة في أفغانستان والعراق، وإذا كانت الإدارة الأمريكية تتصرف بهذه الطريقة مع جنودها المصابين بأعراض وأمراض فتاكة بسبب الأسلحة التي استخدموها، فكيف بهؤلاء الذين كانت تتعامل معهم الولاياتالمتحدة على أنهم إرهابيون رغم أنها فشلت في إثبات التهم على أي منهم؟