شكل إعلان الكونفدرالية الديمقراطية للشغل عن سحب نوابها العشرة من الغرفة الثانية للبرلمان، بالتزامن مع انطلاق الجولة الثالثة من الحوار الاجتماعي بين الحكومة والمركزيات النقابية، أول مبادرة من نوعها تقدم عليها هذه المركزية التي ولدت من رحم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد انفصاله عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في منتصف السبعينات من القرن الماضي، كما شكلت أول خرجة إعلامية وسياسية لهذه النقابة منذ ابتعادها عن الاتحاد الاشتراكي في المؤتمر السادس للحزب عام 2001، لتصبح لأول مرة من دون غطاء سياسي، ويصبح الحزب هو الآخر من دون كونفدراليته التي لعبت دورا قويا في إسناد مطالبه السياسية ونشر إشعاعه السياسي في الشارع المغربي في السبعينات والثمانينات، حيث كانت الكونفدرالية هي اليد التي تضرب، بينما كان الحزب هو اليد التي تأخذ، في لعبة شد الحبل بين الحزب والدولة. فهل تعتبر مبادرة الكونفدرالية بسحب مستشاريها من الغرفة الثانية والتهديد بإضراب عام بداية الفصل بين النقابي والسياسي وتحرك النقابة بعيدا عن الغطاء الحزبي؟ لقد ولد العمل النقابي في المغرب في الخمسينات من القرن الماضي في حضن العمل السياسي، فنشأة الاتحاد المغربي للشغل ارتبطت منذ بدايتها بحزب الاستقلال، الذي كان الحزب الوحيد آنذاك. ورسخ ذلك الارتباط الأول ما بين النقابة والحزب مبدأ سارت عليه جميع الأحزاب السياسية فيما بعد، حيث حرصت على أن يكون لها جناحها النقابي التابع لها. وهكذا عندما خرج الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من حزب الاستقلال عام 1959 حرص على أن يكون الاتحاد المغربي للشغل سنده النقابي في الشارع، ثم سرعان ما انشق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عن الاتحاد الوطني عام 1975، وانعكس ذلك على الاتحاد المغربي للشغل الذي غادره العديد من النقابيين الذين التحقوا بالحزب الجديد، لتؤسس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في نهاية السبعينات، والتي خاضت أول إضراب عام لها بعد عامين في الثمانينات، كان بمثابة ترسيخ لمشروعية الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سياسيا. أما حزب الاستقلال فقد أسس نقابته الخاصة بعد التحاق الاتحاد المغربي للشغل بالاتحاد الوطني للراحل عبد الله إبراهيم. ولم تشذ عن هذه القاعدة حتى الأحزاب التي كانت تنعت بالإدارية، والتي عملت هي الأخرى على إنشاء أجنحة نقابية لها أسوة بأحزاب اليسار والأحزاب التقليدية. ويرى محمد كلاوي، الباحث في العلوم السياسية، أن ظاهرة التلازم ما بين النقابي والسياسي تشكل إحدى الخصوصيات التي ارتبطت بالعالم الثالث خلال سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، في إطار الصراع الذي كان قائما بين الأحزاب السياسية والدولة. بينما يرى حسن قرنفل، الباحث في علم الاجتماع، أن العلاقة بين الحزب والنقابة ورثها المشهد السياسي بالمغرب عن الحركة الوطنية منذ بداية الاستقلال. ذلك أن النقابة التي ظهرت في المغرب في تلك الفترة كان ظهورها مرتبطا بمحاربة المستعمر الفرنسي وتحقيق مطلب الاستقلال، وظل هذا الأسلوب في ربط الحزب بالنقابة قائما في الفترات اللاحقة بمباركة الدولة نفسها، فالمجلس الاستشاري الذي عهد إليه باقتراح أول دستور في المغرب كان يضم عددا من أعضاء الاتحاد المغربي للشغل. وقد دعا هذا الأخير، يقول قرنفل في حديث ل»المساء»، إلى الفصل بين النقابي والسياسي لكن الأحزاب السياسية لم تكن تولي دعوته أي اهتمام. ويعتقد قرنفل أن حرص الأحزاب السياسية المغربية في الماضي على أن يكون لها جناح نقابي، كان ينطلق من فكرة أن النقابة تشكل جسرا من السياسي نحو الاجتماعي، وأداة لربط الحزب بالمجتمع والطبقة العاملة، وأن القوة السياسية لأي حزب لا يمكن أن تتحقق دون القوة الاجتماعية التي توفرها النقابة. هذا التلاحم بين ما هو نقابي وما هو سياسي في المغرب بدأ يتعرض للاهتزاز في السنوات الماضية، وربما حصل ذلك تحديدا منذ توقيع النقابات والحكومة عام 1996 على اتفاق فاتح غشت الذي أدى إلى دخول المركزيات النقابية الأربع الموقعة على الاتفاق في مرحلة «السلم الاجتماعي»، ومهد بالتالي لحكومة التناوب بمشاركة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وبعض أحزب اليسار الأخرى في الحكومة عام 1998، فقد بات هذا التلاحم بين النقابة والحزب مرشحا للانحلال بحكم الواقع ومنطق التطور السياسي في البلاد. وفي رأي محمد كلاوي فإن الفصل بين ما هو سياسي وما هو نقابي في المغرب كان يجب أن يقع منذ البداية، لكن العكس هو الذي حصل. ويقول إن هذا الارتباط كان تقليدا في الستينات من القرن الماضي وكان يطرح على الصعيد النظري في إيديولوجيات اليسار، لذلك كنا نلاحظ في المغرب أن النقابات تابعة للأحزاب السياسية، وأن أعضاء النقابات كانوا في نفس الوقت أعضاء في الأجهزة القيادية لتلك الأحزاب. ويضيف أن لكل من الحزب والنقابة دورهما، حيث يسعى الحزب إلى الترشح للانتخابات والوصول إلى السلطة والمراهنة على أصوات جميع الناخبين، بينما يبقى دور النقابة هو تمثيل الفئات الاجتماعية مثل الموظفين والعمال «وإذا وقع خلط بين الاثنين فسوف يكون هناك تداخل في الأدوار ونوع من التشويش». ويرى كلاوي أن منطق التحولات التي تحصل في المغرب وفي العالم يقلص من دور النقابات التي أصبحت معرضة للاضمحلال، وفي هذا الإطار يقول إن مبادرة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، التي ربطت بين دور الغرفة التشريعية الثانية وبين الحوار الاجتماعي، تبين الاضطراب الذي أصبح يعيشه العمل النقابي، حيث سعت الكونفدرالية إلى استعمال ورقة مجلس المستشارين لطرح نفسها في الساحة مجددا، وهذا يعني حسب رأي كلاوي أن النقابات فقدت تجذرها في الشارع. وهذا صحيح في رأي حسن قرنفل، الذي يرى هو الآخر بأن النقابات فقدت شيئا من قوتها ومن عدد الأعضاء المنخرطين فيها، حيث تراجع كثيرا المنخرطون في النقابات في الأعوام الأخيرة، كما أن التعدد النقابي أثر كثيرا على وزنها في الساحة الاجتماعية بسبب تشتتها وعدم اتفاقها على استراتيجية موحدة في ما بينها. ويضيف قرنفل أنه تجب مراجعة العلاقة بين النقابات والأحزاب السياسية اليوم وأن يقتصر عمل النقابات على الدفاع عن حقوق العمال في مطالبهم اليومية والدفاع عن القدرة الشرائية للمواطنين.