بآسفي اليوم مأساة اسمها البحر! فالمدينة التي وجدت نفسها منذ قدم التاريخ على صخور الساحل الصلبة، أصبحت معلقة من رجليها بخيط من الصوف، تكفيها لملمة صغيرة حتى تتهاوى على أول الموج من أعلى الصخر الساحلي. هنا في هذه المدينة المنزوية على نفسها، الناس يدخلون بيوتهم مع أول بزوغ للخيط الأسود، مازال الآسفييون يحتفظون، بفطرة موروثة، عدم ثقتهم في ما قد يحمله آخر النهار من شؤم أو مصائب ومفاجآت، فالمدينة التي نامت ذات يوم وأفاقت على احتراق مساجدها واستباحة نسائها وديارها مع مجيء عسكر الملك البرتغالي إمانويل الأول، لم تنس بعد في جينات أبنائها ما قد يحمله الغريب من أضرار وفساد. لقد ظلت أبواب آسفي في بحرها، تغلقها الأمواج وتفتحها كما شاءت الطبيعة، وبالبحر وضعت آسفي منذ أن وجدت بطنها وبطن فقرائها وأغنيائها، وتحصنت منذ الأزل من مآسي فترات «المجاعة» التي كانت تأتي على أراضي المغرب الفلاحي. «رياس» آسفي كانوا فيما مضى، وحتى قبل سنين، من علية القوم، فدخلهم المادي كان يرفعهم إلى مراتب اجتماعية معتبرة، أما كبار صناع المراكب من «حرافية» النجارة، فكانوا مهندسين بفطرة الأجداد، حتى إن صغار متعلميهم كانوا بفضل عملهم يوفرون منزلا في ملكيتهم من أول سنة من الاشتغال، من غير داع للمرور عبر قروض السكن التي يلجأ إليها اليوم العامل البسيط والمهندس الكبير. رجال البحر اليوم بآسفي أصبحوا كصباغي «الموقف»، يتأبطون قففهم ويشعلون سجائرهم الرديئة وينتظرون تحت حر الشمس إشارة من أرباب المراكب الذين اغتنوا وحدهم في السنين الأخيرة بالرغم من أن السمك لا وجود له، حتى إن الناس هنا يتساءلون عن أي صيد آخر ثمين يدخلونه في شباكهم، ويضمن لهم شراء المراكب والسيارات والبقع الأرضية حتى لو دخلت بواخرهم فارغة إلى الميناء؟ هناك بمدينة آسفي اليوم معيار طبيعي لقياس درجة الصفر التي وصل إليها المخزون السمكي بعد ارتفاع حرارة البحر، وهجرة السردين إلى المياه الباردة، وتكاثر معدلات التلوث الكيماوي، يكفي أن تتقابل مع مطارح النفايات والأزبال لترى أن «عوَّا» أصبحت تزاحم القطط والكلاب وتتصارع معهما بمناقيرها لتسكت جوعها بسبب قلة السمك. فطائر النورس الذي يسميه أهل البحر ب«عوَّا» اعتاد، منذ أجياله الأولى التي اختارت العيش بميناء آسفي، أن يقتات من مؤخرة البواخر و«الفلايك» وهي تدخل الميناء، حتى إذا رست تكون أسراب «عوَّا» قد ملأت بطنها وبدأت في التحليق عبر أجواء المرسى إلى أعلى صوامع ومنارات المدينة. البحر والميناء بآسفي كانا أول مشغل لليد العاملة وأول ضمانة اجتماعية ضد بطالة الرجال والشباب، واليوم انتهى زمن «الرياس» الذين كان ينحني لمرورهم بسطاء الناس، فقط لأن البحر بآسفي فقد هيبته، ولم يعد يطعم حتى البطون الصغيرة لطيور النوارس.