هناك جمل استفهامية صارت معروفة التداول بين أبناء الجالية المغربية والعربية عموما، حين التعارف. ومن هذه التعابير المكرورة دون ملل: كيف أتيت إلى هنا؟ كم قضيت إلى الآن في هذه البلاد؟ أكيد تزوجت أجنبية أو مقيمة هنا؟ السؤال الأول يتضمن إشارة خفية إلى أن من يستطيع الوصول إلى بريطانيا إما كفء، وهذا نادر جدا، أو محظوظ ، وقضية الحظ غير مستبعدة لكن بنسبة غير كبيرة، أو أن المخاطب يبلغك رسالة مفادها أنه لا يستبعد أن تكون، ربما مثله، تحمل جوازا مزيفا أو تعيش وضعية غير قانونية. أما الاستفهام الثاني حول المدة المفترض أن المهاجر قضاها في المملكة المتحدة فهي حمالة تأويلات، بمعنى قد تفيد: صرت مقيما؟ حصلت على الجنسية؟ هل صار بالإمكان الاعتماد عليك لإنقاذ إنسان أو إنسانة هناك تتحرق شوقا لمغادرة موطنها الأصلي، طبعا عبر زواج حقيقي أو ذلك الموصوف بأنه أبيض. والحقيقة أن فكرة ركوب قارب الزواج بالأجنبي من الناحية القانونية أضمن لأن الشريك يورث الطرف الثاني وضعا قانونيا تترتب عليه امتيازات في فترة ليست بالطويلة. ومن يظن أن المغاربة الذكور هم الأكثر تعاطيا للزواج من الأجانب فهو مخطئ، لأن المغربيات أيضا اهتدين إلى هذا السبيل.. ومنذ زمن ليس بالقريب. لكن لكل قرار ثمنا. بين يدي قصص حقيقة لمغربيات ومغاربة سأقتصر على بعض جوانبها، تفاديا لسرد تفاصيل غير ضرورية، وسنرى إن كانت الضفة الأخرى خضراء دائما، كما يقول المثل الإنجليزي. في حضن أجانب المقصود بداية بالأجنبي أو الأجنبية، في هذا المقال، هو غير المغربي وغير العربي وغير المسلم. والسيدة «شين»، المتحدرة من البيضاء طبقت الوصفة كاملة حين وجدت نفسها مدفوعة للزواج من شخص أوربي، بعد أن «نهشني عشيقي المغربي الأول، واستغلني زوجي العربي الأصل طيلة سنتين، وفي النهاية وجدت نفسي شبه مشردة في دولة خليجية، إلى أن رمتني ظروفي إلى سويسرا ومنها إلى إيرلندا» وتضيف المتحدثة: «الآن على الأقل أعيش مع إنسان تربى على الحرية وليس أنانيا»، وتتساءل: هل كان علي أن أمر بما قاسيت قبل أن أجد في الأخير من لا يشاركني لا لغتي ولا لوني ولا ديني كي يعاملني كإنسانة قبل كل شيء؟ وتعترف «ش» أن عددا قليلا من أفراد أسرتها من يعرفون قصة ارتباطها برجل أجنبي، وأن شيئا ما بداخلها مازال يهزمها كي تسير إلى جانبه مرفوعة الرأس يوما ما في أحد شوارع البيضاء أو الرباط. أما نادية، وهي من شمال المغرب، فقد ارتبطت بإسباني في المغرب بعد أن «أسلم»، قدمت استقالتها من إحدى المؤسسات المالية وركبت البحر إلى أن رست سفينتها في لندن وبدأت معاناة لم تكن بالبال، دينيا: شكت في أمر إسلام زوجها بعد أن صدرت منه سلوكات تناقض أبسط تصورات الإنسان الذي اعتنق الإسلام، راجعته في الأمر فكانت إجابته أنه يتصرف بما يبدو له صحيحا، ولما جاء وقت أول رمضان في زواجهما تذرع بأنه لا يستطيع صحيا أن يصوم. وتوالت الصدمات، تقول هذه المهاجرة، إلى أن جاءت الذكرى الثانية لزواجهما حينها وعدها بهدية غير عادية: صليب من ذهب وإنجيل مترجم إلى اللغة العربية، وفي قلب الهدية جملة بمضاء شفرة الحلاقة: «لم أسلم يوما فعلت ذلك فقط لأنني أحببتك». وبدأت أزمة نفسية إثر كذبة عمرت سنتين قبل أن تنكشف. ما العمل؟ هكذا سألت الزوجة المغربية نفسها قبل أن تصل مع زوجها الأجنبي إلى صيغة قبلتها على مضض أن يستمر الزواج قانونيا ثلاث سنوات أخرى تكون مدة كافية لتحصل على الإقامة الدائمة. مرت السنوات تباعا إلى نهايتها. تم الطلاق وبقيت ذكريات وندوب في الذاكرة. مغربية أخرى تقطن شمال انجلترا قادتها إحدى صديقاتها التي سبقتها إلى الهجرة للعمل لدى انجليزي في سن أبيها أو أكثر قليلا، شده إليها جمالها وإخلاصها في العمل، وتطورت العلاقة من الشغل إلى «شغل» آخر ثم إلى زواج، لكن صاحبنا كان مطلقا وصاحب ثروة ولديه ورثة. قبلت مليكة بفارق السن وما يتبعه، لكن أحدا من أقارب زوجها لم يتركها في سلام: مكائد وراء أخرى أثمرت هروبها وزوجها للاستقرار في إحدى ضواحي باريس عل وعسى، لكن لعنة الزوج المطلق لاحقتها إلى هناك، والهدف واحد فصلها عن زوجها كي لا تنجب ولدا سيكون وريثا غير مرغوب فيه. ومن غرائب ما حصل لهذه المهاجرة المغربية كشفها سيناريو بين الزوجة السابقة وأبنائها توصيهم فيه بكيفية جعل أبيهم يمقت زوجته المغربية، وطبعا بخبث إنجليزي يجمع بين الدهاء وطول البال، سمعت الشريط بأم مسمعي وتساءلت: من قال إن كيد حواء يتغير من قارة إلى أخرى؟ أما القصة الأخيرة والتي تبعث على كثير من الحسرة فصاحبتها طلبت عدم ذكر اسمها ولو بالحروف الأولى، وملخصها أن شابة مغربية تعرفت على بريطاني عن طريق أخيها في أكادير وهو ما قاد في النهاية إلى «زواج» دام قرابة ثلاث سنوات إلى الآن. والغريب في القصة أن الزوج استغل الفترة التي يتيحها القانون المعمول به في ما يخص منح تأشيرة سفر من أجل الزواج تدوم ستة أشهر إلى عامين، وهي المدة التي يحق للزوج فيها أو يوقع الزواج أو يرفض. عامان كان على المغربية أن تصبر فيهما على كل شيء في سبيل تسوية وضعيتها يوما ما. لكن الزوج كلما طرقت الموضوع تهرب، عانت كثيرا، وبفعل الاختلاط والضغط النفسي أدمنت على الكحول وتدهورت صحتها كثيرا.وأكثر من هذا، فإن زوجها مصاب بشك غريب بحيث يتصرف معها كملكية: لا تخرج إلا بإذنه ولا تسافر إلا معه ولا يكون لها من المال الفائض شيء بحيث تظل تابعة له في كل شيء. والمصيبة أنها بعد كل هذه المدة استأنست كرها بما هي فيه ولم تعد تتصور أن تغادره يوما لتبدأ حياتها من جديد في مكان آخر. هو يغادر البيت صباحا ليعود مع منتصف الليل، وهي عليها أن تلزم البيت وإن ضجرت واستعملت الهاتف عليها أن تخبره بمتى اتصلت ولم ومن يكون المتصل به؟ غيض من فيض، مآس في بلاد الحريات. في حضن أجنبيات «لعن الله اليوم الذي فكرت فيه بالخارج ولعن الساعة التي ذهبت فيها لاحتساء الخمر في حانة شكسبير والتقيتها هناك»، هكذا قال سمير جوابا عن سؤال: هل أنت سعيد مع زوجتك الأجنبية. ويضيف: «في وقت ما كنت مهاجرا سريا وطفح بي الكيل والمغربيات اللواتي رجوتهن الزواج على سنة الله ورسوله وأيضا لإنقاذي من وضعية صعبة تعالين علي، صرت منبوذا من بنات بلدي فكان البديل هو الحل الآخر». ويتمنى هذا الرجل لو يعود الزمن إلى الخلف قليلا كي يختار مغربية لا يحتاج معها ليترجم أحاسيسه كل ليلة حتى إذا عاد إلى البيت وجد الشاي بدل النبيذ الأحمر وقناني الويسكي وشم رائحة الكسكس عوض شرائح الخنزير المقلية. أنجب معها ابنين ولا يدري إلى الآن على أي ملة سيكونان وهما اللذان لا يعرفان حرفا من لغة أبيهما، وحين يمازحهما أنهما مغربيان ينقلان المزحة إلى الأم فتثور ثائرتها وتؤنبه على «إفساد تربية عزيزيها الغاليين». مغربي آخر ضاق ذرعا ببلجيكا وما لاقاه فيها من عنصرية فقرر الرحيل إلى لندن، ولكي يقطن هنا بسلام وبشك قانوني كان عليه الزواج من بنت البلد الأجنبي، وقد كانت الصفقة واضحة: المصروف مقابل عقد زواج قانوني يدوم على الأقل أربع سنوات. يعلق ساخرا: «أنا أحسن مواطن هنا أدفع ضريبتين واحدة للدولة وأخرى لبنت الدولة إلى أن يطلق الله سراحي». لا يمر شهر إلا ويدفع «لزوجته» أكثر مما يتيسر وإن غابت شهورا في سفرياتها عادت بفاتورة محترمة ولا سبيل للتأخير في الأداء. هي تستثمر كونها بريطانية في حاجته وهو يراهن على ما تبقى له من شهور قبل أن يصبح مقيما بشكل نهائي، لكن مشكلة أخينا أن موضوع الزواج بعد انتهاء ما يسميه «المحكومية» بات يبدو له بعيد المنال، بحكم عاملي السن وعدم استعداده أن يتزوج ببنت بلدته الصغيرة جنوب المغرب يستقدمها من هناك ليبدأ رحلة متعبة أخرى قبل أن تندمج في بلاد يعد الاندماج أكبر رهانات الدولة بها. شاب مغربي يدعى أحمد نموذج آخر للزواج المختلط، قضى في إسبانيا خمس سنوات عجاف فقرر الهروب من العنصرية والأشغال الشاقة، كما يسميها، والوجهة كانت بريطانيا. جاء في سياحة تزامنت وفترة رمضان، ذهب ليصلي في أحد المساجد المعروفة بصفقات الزواج هنا، وعند انتهاء التراويح اقتربت منه سيدة في عقدها الرابع لتسأله إن كان يعرف رقم حافلة تقلها إلى مكان ما. لملم ما تبقى في ذاكرته من مفردات إنجليزية وأجاب بلكنة بالكاد تفهم، سألته عن أصله فدار بينهما حوار أفضى إلى تعارف أثمر فيما بعد زواجا. يقول أحمد: هي في مثل سن أمي تقريبا، سيدة طيبة لكنها لا تستطيع أن تنجب وهي سعيدة بابنتها الوحيدة من زوجها المتوفى، أما هو فعليه أن ينسى شيئا يسمى الأبوة، يسرح به التفكير أحيانا إلى المستقبل أي بعد خمس سنوات على الأقل حين يصبح مواطنا بريطانيا، لكن، يضيف، أنها سيدة متدينة وصادقة ولا يستطيع أن يغدر بها أو يتزوج غيرها. طلبت منه يوما أن يسافرا معا إلى المغرب لتتعرف على أسرته فأنكر أن له أية أسرة مدعيا أنه وحيد أبيه وأمه المتوفيين وأن باقي أقاربه يناصبونه العداء وقد يلحقون به مكروها إن عاد لأنهم «استولوا على إرث أبيه وكانوا سببا في هجرته المغرب»، إلى متى ستصمد هذه الحيلة؟ سؤال يؤرق أحمد الذي لا يريد أن يواجه الحقيقة خوفا من «فضيحة أمام الأهل والجيران والأصدقاء القدامى» ويعجز عن أن يجد بديلا آخر غير البقاء مع سيدة يتردد أحيانا في أن يدعوها «مام» أي أمي بالإنجليزية. شر البلية ما يضحك. مطر.. في غربات متداخلة لا نعاكس «مديح ظل عال»، لدرويش دواوينه وأحلامه، ولهذه الأمة كوابيسها. وعورات الأمة ما أكثرها اتساعا لناظر من وراء الحدود. في لندن يقيم أحمد مطر في غربات متداخلة، وانطواء اجتماعي مخيف. ويقول إنها ليست أكبر من أحزانه. مر منها نزار قباني الذي نصح مطر بالكتابة عن الحب فأجابه صاحب اللافتات بديوان صغير سماه «أعرف الحب ولكن» مات نزار وقبل وفاته كان خلف وراءه قصيدة «فاطمة في الريف البريطاني». كل يحب على شاكلته بمن في ذلك الرسميون. ومظاهر حب الزعماء العرب غريبة الأطوار هذه الأيام، فهم بعد قمة دمشق يبحثون قمة أخرى..من أجل عزة الشعوب العربية. وقد أشفقوا على الشعوب نفسها من السمنة فقلصوا المواد الأساسية ولما ثار الجياع دلكوا عضلاتهم بالهراوات تجنيبا لهم من الإصابة بتكلس العظام. أما مظاهر عشق بعض مسؤولينا في الرباط للمهاجرين فكثيرة ولا تحتاج إلى شعر. وقد بلغ هذا العشق أن أشفقوا على «شعب» في المهجر فكفوه عناء المشاركة في الانتخابات السابقة جنبا إلى جنب مع السجناء والمكفوفين. وحينما جاء أوان إحداث هيئة لتمثيل القاطنين بالخارج ولد المجلس المعين ميتا، وبدل أن يكون سببا في لم الشمل خلف احتجاجات «القانطين» ثم هدأت العاصفة ولف الموضوع صمت مريب. يقترب الصيف فيحين موعد غرام البنوك وتفتح شهية الصناديق أمام تحويلات «مغرب المهجر» تحت شعار عملي طويل: اعطنا أموالك واصمت فهو خير لك.. ما دخلك في السياسة؟ أنت مجرد مهاجر لا تبحث عن ديمقراطية أو مشاركة، أنت أمي وللسياسيين قداسة. مع الاعتذار لصاحب أبيات «يعوي الكلب إن أوجعه الضرب».