مرت ستة أيام على عملية «الهروب الكبير» التي نفذها تسعة من سجناء السلفية الجهادية، وإلى حدود الساعة لم يعقد مسؤول واحد في وزارة العدل ندوة صحافية لكي يخبر الرأي العام بملابسات هذه الفضيحة. كل ما سمعناه هو تصريح للناطق الرسمي باسم الحكومة، خالد الناصري، قال فيه أن التحريات لازالت متواصلة وأنه سيتم إبلاغ الرأي العام بالأمر ريثما تتوفر المعطيات «القابلة للنشر». هذا ربما يعني أن الذين يقومون بالتحريات لديهم معطيات حول عملية الفرار، لكنها معلومات غير قابلة للنشر. وحتى لا يزل لسان الناطق الرسمي كما وقع له في قضية خليه بلعيرج، استدرك وطلب من الصحافيين الذين حضروا لقاءه الأسبوعي بأن لا ينتظروا منه الحديث عمن يبدو له متورطا في قضية «الهروب الكبير» للمعتقلين التسعة، حتى لا يصلبوه فيما بعد في صحفهم ويكتبوا أنه يدين المتهمين قبل القضاء. ويبدو أن السيد وزير الاتصال يعرف أكثر من غيره على من تقع مسؤولية فرار السجناء الخطرين التسعة. فالورطة التي لم يتبين خيوطها بعد سعادة الوزير، والتي أراد البعض أن تشمل فقط رئيس المعتقل ومدير السجن الذي تم إعفاؤه من مهامه، يجب أن تمتد لتشمل الكاتب العام لوزارة العدل الذي يشرف على مديرية السجون. ويكفي في كل مرة تندلع فيه فضيحة كبرى أن نرى الموظفين الصغار يؤدون الثمن وحدهم. ففي الدول الديمقراطية عندما تندلع فضيحة من عيار فرار تسعة سجناء مصنفين خطرا، هناك احتمال كبير في أن يشكل فرارهم تهديدا مباشرا للأمن العام للمواطنين والدولة، يبدأ الكبار أولا بتقديم استقالتهم وتبدأ محاسبة المسؤولين من أكبرهم إلى أصغرهم. وأكبر مثال على ذلك ما وقع السنة الماضية في بلجيكا عندما اندلعت فضيحة فرار من العيار الثقيل في سجن «ديترو»، وكان أول من قدم استقالته هو وزير العدل ووزير الداخلية بعد أن خرجا إلى الصحافة وتحملا مسؤوليتهما في عملية الفرار. أما عندنا فالكبار اجتمعوا بعد فضيحة «الفرار الكبير» واتفقوا على تشديد الحراسة في السجون التي يوجد بها معتقلو السلفية الجهادية، وفتح تحقيق مع بعض الموظفين الصغار في سجن القنيطرة. وتناسوا أن وزارة العدل لو كانت تأخذ ملف السجون في المغرب على محمل الجد لما تركت مديرية السجون بدون مدير طيلة سنة كاملة. على كل حال جميل أن يتعلم وزير الاتصال أصول المهنة. لكن الأجمل منه سيكون هو تخليه عن لغة الخشب التي أعطى الدليل الواضح على أنه يجيدها أكثر من سلفه ورفيقه في الحزب نبيل بنعبد الله، الذي بالمناسبة فك الله عقدة لسانه بعد مغادرته للحكومة واعترف في حوار طويل أجرته معه الزميلة «الأيام» وتنشره على حلقات أنه كان مضطرا لقلب الحقائق. وفي إحدى الحلقات الماضية يكشف لنا وزير الاتصال والناطق الرسمي السابق للحكومة عن فهمه الخاص لوظيفة الناطق الرسمي للحكومة في المغرب، والتي يمكن أن تتحول إلى وظيفة «الكاذب الرسمي» للحكومة. وقد اعترف وزير الاتصال السابق في حواره بإخفائه للحقيقة والتصريح بعكسها في الندوات الصحافية التي كان يعقدها باسم الحكومة. خصوصا تصريحاته حول الاختطاف والتعذيب، والتي كان يكذب فيها جملة وتفصيلا ما كانت «تدعيه» الجمعيات الحقوقية. ولكي يبرر الناطق السابق باسم الحكومة إخفاءه للحقيقة عن الرأي العام سأل الصحافي الذي يستجوبه إن كان يعتقد «أن هناك ناطقا رسميا في أمريكا وفي فرنسا وإسبانيا يمكنه أن يقول في ندوة صحافية بحضور عشرات الصحافيين إن بلاده تعرف فعلا العديد من الاختطافات وحالات التعذيب». لا بد أن الناطق الرسمي باسم الحكومة السابق يجهل أن الرئيس الأمريكي اعترف أخيرا بلجوء جهاز الاستخبارات الأمريكي إلى التعذيب لانتزاع اعترافات من المعتقلين المتهمين بالإرهاب. وذهب بوش إلى أكثر من ذلك عندما أقر بقانونية التعذيب بتقنية إغراق رأس المشتبه فيه في سطل من الماء حتى يشارف على الاختناق. ولا بد أن الناطق الرسمي باسم الحكومة السابق يجهل أيضا أن الحكومة الإيطالية والحكومة البريطانية والحكومة الألمانية، التي يضرب بها المثل في حواره، اعترف ناطقوها الرسميون جميعها مؤخرا، تحت ضغط الإعلام والمنظمات الحقوقية، بسماحها لمرور طائرات أمريكية في أجوائها محملة بمعتقلين ذاهبين إلى معتقل غوانتانامو، بعد أن ظلت هذه الحكومات تنفي في السابق هذا الأمر. والأكثر من ذلك، فمن خلال تصريحات هذه الحكومات نكتشف أن نبيل بنعبد الله أخفى الحقيقة عندما كان ناطقا رسميا باسم الحكومة ونفى نفيا قاطعا ما نشر في الصحافة الوطنية حول طائرات أمريكية تحمل معتقلين من غوانتانامو حطت في المغرب. وهذه الحكومات الأوربية لم يعترف بعض ناطقيها الرسميين فقط بأن المغرب كان إحدى محطات مرور هذه الطائرات، وإنما أيضا كان وجهة للمحققين التابعين لوكالة الاستخبارات الأمريكية الذين جاؤوا خصيصا إلى المغرب لكي يحققوا مع هؤلاء المعتقلين. فهل قامت الحكومة المغربية بالاعتراف بأكاذيبها مثلما اعترفت حكومات إيطاليا وبريطانيا وألمانيا. أم أن نبيل بنعبد الله يريد حكومتنا أن تتشبه بهذه الحكومات الديمقراطية في «النكير» فقط وليس في فضيلة الاعتراف بالخطأ أيضا. على أية حال فإذا كان من مزية لاعترافات وزير الاتصال السابق فهي أنها وضحت لكل من لازال بحاجة إلى توضيح المهمة الرئيسية للناطق الرسمي باسم الحكومة. وهي مهمة «النكير» مهما كلف الأمر، والامتناع عن تزويد الرأي العام بالمعلومات «غير القابلة للنشر». حتى ولو تعلق الأمر بقضية خطيرة تهم بشكل مباشر الأمن العام للمواطنين والدولة كقضية فرار تسعة معتقلين محكومين على خلفية أحداث 16 ماي الإرهابية بعقوبات تتوزع بين الإعدام والمؤبد. إن أبرز تجل للاستهتار بالرأي العام المغربي، وبالإعلام الوطني هو انكماش كل المسؤولين في مكاتبهم وإغلاقهم جيدا لأفواههم وهواتفهم، وعدم قدرتهم على الخروج لمواجهة الصحافة بما لديهم من معطيات حول عملية الفرار الخطيرة هذه، تماما كما يحدث في كل الدول الديمقراطية التي يتبجح بعضهم اليوم بالقول بأنها أثنت جميعها في جنيف على تقرير حقوق الإنسان الذي تلاه «ممثلو» المغرب الرسمي هناك. والذي صادف بالمناسبة، ويا لسوء حظ وزير العدل، أخطر عملية فرار عرفتها سجون المغرب. على العموم شكرا لنبيل بنعبد الله لأنه أزال الغموض حول طبيعة عمل مؤسسة الناطق الرسمي للحكومة. ووضح لنا أن وظيفة «الناطق الرسمي» هي أن يكون المكلف بها «صامتا رسميا»، وإذا تكلم فلكي يقنع الصحافيين والرأي العام بمضمون تلك النكتة التي تقول بأن أحد القناصة كان يحاجج زميله حول أن ما يراه أمامه معزة، فيما كان الآخر مصرا على أنها غراب. وفجأة طار الغراب، فالتفت القناص إلى زميله وقاله له : - شحال فيك ديال التقابيح، دابا هادي معزة ولا غراب ؟ فما كان من القناص الذي لديه جينات الناطق الرسمي باسم الحكومة سوى أن عقد حاجبيه، كما يصنع خالد الناصري، وقال غاضبا : - معزة ولو طير...