قبل عام كامل وفي شهر مارس من العام الماضي 2007 التقيت مع الدكتور جاك ضيوف، مدير منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة الفاو، وحذر في مقابلة مطولة أجريتها معه من أزمة حادة في القمح والحبوب ستجتاح كثيرا من الدول وعلى رأسها مصر، لكن أحدا من المسؤولين في مصر لم يتحرك. وفي يناير الماضي التقيت الدكتور ضيوف مرة أخرى لكنني قبل أن ألقاه رأيت في مصر طوابير الخبز وقد أصبحت سمة بارزة أمام كل الأفران في المدن والقرى، ووصفت في مقال سابق كيف رأيت الناس بكل أعمارها تقف ولساعات طويلة أمام المخابز من أجل الحصول على بعض أرغفة الخبز، لكن رجال الأعمال الذين يديرون الحكومة المصرية لم يكونوا مشغولين سوى بزيادة الأرباح في ظل الغلاء الذي يطحن الفقراء في مصر، فانتهزوا فرصة زيادة الأسعار العالمية لرفع أسعار كل شيء في مصر لاسيما السلع حتى حققت معظم الشركات، التي تنتج المواد الغذائية في مصر التابعة للقطاع العام الذي تملكه الحكومة، أرباحا طائلة لم تكن تحققها من قبل، فشركة الدلتا للسكر حققت أرباحا مقدراها 320 مليون جنيه مقابل 250 مليونا حققتها في عام 2006، أما الزيوت المستخلصة التي حققت خسائر في العام 2006 مقدارها ثمانية ملايين جنيه فقد حققت أرباحا في عام 2007 مقدارها سبعة ملايين جنيه. كما أعلنت الحكومة في شهر فبراير الماضي أن شركات قطاع الأعمال قد حققت أرباحا صافية مقدارها 3,9 ملايير جنيه مقابل أرباح صافية في 2006 مقدارها 1,6 مليار جنيه، أي أن حكومة رجال الأعمال قد ضاعفت الأرباح من جيوب المستهلكين المصريين، لكنها لم تلتفت إلى لقمة الخبز وإلى القمح الذي يعتبر المحصول الاستراتيجي الأول لدى كل دول العالم التي تعتبر رغيف الخبز حاجتها الأساسية، لكن حكومة رجال الأعمال والحكومات التي سبقتها قامت بدعم الفلاح الأمريكي طوال السنوات الماضية على حساب الفلاح المصري، حيث كانت الحكومة المصرية تستورد القمح الأمريكي بما يزيد عن ثلاثمائة وخمسين دولارا للطن، في الوقت الذي كانت تدفع فيه للفلاح المصري 180 جنيها فقط لا غير للأردب، مما جعل كثيرا من الفلاحين المصريين يعرضون عن زراعة القمح، لأنه علاوة على هذا السعر المتدني فإن الحكومة كانت تتباطأ في استلامه، وكانت كميات كبيرة منه تهدر أثناء النقل والتخزين. وقد نشرت الصحف المصرية عشرات التحقيقات عن تلك القضية خلال السنوات الماضية، لكن إرضاء أمريكا والفلاح الأمريكي كانت مقدمة على مجرد الالتفات إلى أي مصري، وحينما قررت أمريكا أن تقلل كميات التصدير إلى مصر، قامت الحكومة بمد يدها إلى كل الدول التي لديها فائض من القمح ككازاخستان وفرنسا وروسيا وكندا وحتى إيران التي لا تقيم مصر معها علاقات منذ عام 1979. وبينما كان رجال الأعمال مشغولين بمضاعفة الأرباح وجنيها، بدأ المصريون يسقطون شهداء في طوابير الخبز، ونقلت الصحف المصرية قصصا لا تنتهي عن هؤلاء الذين بلغوا خمسة عشر شهيدا، حتى الآن وفق بعض الروايات ،غير أن أول من سقط منهم هذا العام، كان ماسح أحذية بسيطا من محافظة الدقهلية لديه أربعة أولاد يدعى عبد الغني فهمي شاهين، كان يصلي الفجر ثم أخذ دوره في طابور الخبز حتى يحصل على ما قيمته جنيه واحد فقط من الخبز، لكن الرجل الذي قضى ساعتين في الطابور، وهو يكافح من أجل الحصول على بعض الأرغفة التي ينتظرها أولاده، سقط شهيدا جراء الزحام والتدافع، ليترك زوجته وأولاده إلى المصير المجهول، ثم سقط بعده كثيرون سواء في اقتتال في ما بينهم حول أحقيتهم في الدور على الخبز، أو في صراع على بعض الأرغفة، ولنا أن ندرك حجم الأزمة في ظل التقارير التي تشير إلى أن الأسوأ قادم في الأيام القادمة، في ظل نقص المحصول الاستراتيجي من القمح أو انعدامه في بعض شركات المطاحن في مصر، ويشير الخبراء إلى أنه إذا لم يتم وضع حلول جذرية للمشكلة فإن الوضع سيكون سيئا للغاية خلال أشهر الصيف، وستكون الكارثة الكبرى في رمضان القادم، غير أن المصريين لا تفوتهم الدعابة حتى في ظل الأزمات الكبيرة، فقد نشرت صحيفة الراية القطرية في 6 مارس أن مصريا يدعي سيد رشوان كان يعاني كل يوم من التدافع والصراع على بعض الأرغفة في طوابير الخبز، فلاحظ أن الطوابير المخصصة للنساء الزحام فيها أقل، فقرر أن يرتدي النقاب وأن يقف في طابور النساء حتى يحظى ببعض الأرغفة ويتجنب المعارك في طابور الرجال، غير أن سيدتين في طابور النساء شعرتا بالشك فيه رغم أنه لم يقم بأية سلوكيات مؤذية، لكنهما بعد مراقبته تأكدتا أنه رجل فصحن: «راجل... راجل»، وسرعان ما تجمعت عليه النساء وكذلك الرجال وانهالوا عليه ضربا بالأحذية والأيدي، فأكل علقة ساخنة وهو يصرخ متوسلا للجميع أن يكفوا لأن الذي أجبره على هذا الهوان هو الأمر من المر، وأن هدفه كان فقط من أجل الحصول بسهولة على بعض أرغفة الخبز لأولاده، إلا أن الشرطة حضرت وضبطته متلبسا بالجرم المشهود، لكن الرجل المسكين قال، وهو يتوسل الجميع أن يكفوا عنه: «كيف أطعم أولادي خبزا غير مدعم وثمن الرغيف خمسين قرشا بينما راتبي لا يزيد عن أربعمائة جنيه؟». لك الله يا مصر!