بينما أنا جالس أمام القناة الفرنسية الألمانية «أرتي» أتتبع مستجدات الساحة الثقافية المحلية والدولية، أطلت امرأة «في كامل مشمشها»، كما يقول محمود درويش، أي شديدة الاعتناء بنفسها، لتقديم البرنامج الثقافي الأسبوعي. وقد لفت انتباهي أن المنشطة، وهي تتحدث عن المعرض الدولي للكتاب بباريس، تركت الكتاب جانبا، ومضت تحيي مبادرة اختيار إسرائيل ضيفة شرف لتزامن الحدث مع الذكرى الستين لقيام الدولة العبرية. لم أفهم أصل العلاقة بين معرض للكتاب والاحتفال بقيام أية دولة في العالم. كما لم أفهم الغاية من تحويل ثقافة الكتاب، من ثقافة شمولية للانصهار والتعايش، إلى ثقافة فرعية عرقية تحشد لها المنشطة ملايين المشاهدين تحت غطاء معاناة اليهود ومعسكرات الاعتقال النازية. يقال إن الثقافة هي سياسة المجتمع، والسياسة هي ثقافة الدولة، والحال أن المقولة تنطبق نصا وروحا على راعية المعرض الدولي للكتاب، وزارة الخارجية الفرنسية، التي قد تؤدي فلسفتها التكريمية الجديدة، تحت غطاء عيد الاستقلال، إلى تحويل وظيفة الفكر والأدب من مجال للإبداع الخصب والتفاعل المثمر، إلى مجال يكرس ثقافة سياسوية هابطة لا تحترم مشاعر العرب والمسلمين، لاسيما وأن الدولة المحتفى بها تغتال الثقافة في فلسطين بطمسها معالم التاريخ والتراث. فهل يحق الاحتفاء ثقافيا بستين عاما على نشوء دولة إسرائيل ونسيان أن هذا التاريخ هو نفسه نكبة الفلسطينيين؟ وكيف يجوز لوزير الخارجية الفرنسي، بيرنار كوشنير، تحقيق العدالة لذاكرة البعض وحذفها تماما للبعض الآخر، رغم ما قدمه من تبريرات بأن «الأدب الإسرائيلي» هو المدعو إلى المعرض كضيف شرف وليس دولة إسرائيل؟ وهل يمكن للضمير الثقافي البشري، وعلى رأسه الفرنسي، أن يغض الطرف عن هذه العملية التزويرية التي تكرم دولة تقوم تحت ستائر الديمقراطية بالتفريق بين مواطنيها غير اليهود، وتتجاهل، باعتبارها قوة محتلة، كل التزام اتخذته، كما تمارس العقوبات الجماعية بحق شعب كامل؟. حتى الآن، لم يصدر عن المثقفين الفرنسيين أي رد فعل عن الاستضافة الشرفية لإسرائيل، تاركين الكاتب الإسرائيلي أهارون شبتاي، وهو الوحيد من بين الأربعين المدعوين الذي رفض المشاركة في الطبخة الفرنسية، ينوب عنهم بالقول: «لا أعتقد أن دولة تستمر في الاحتلال وترتكب كل يوم مجازر بحق المدنيين تستحق أن تدعى إلى أي أسبوع ثقافي كان، فهذا ضد الثقافة بل هو عمل بربري متنكر بزي الثقافة ويعبر عن دعم فرنسا لإسرائيل ودعمها للاحتلال، وأنا لا أريد المشاركة في ذلك». وفي مبادراتهم الاحتجاجية على هذا التكريم الذي سيحضره الرئيس ينقسم المثقفون العرب بين فريق مؤيد لمقاطعة المعرض، باعتبار أنها الوسيلة الأنجع لردع إسرائيل ولفت أنظار العالم، وخاصة المثقفين، إلى ما يحصل اليوم في الأراضي المحتلة، وخصوصا في غزة، وما حصل بالأمس في لبنان، وفريق يرى أنه إذا كان الاعتراض والاحتجاج فعلان إيجابيان، فإن المقاطعة فعل سلبي وانهزامي في ذات الوقت. وبينما يدعو إلى عدم تفويت الفرصة على المثقفين العرب للذهاب إلى المعرض وتنظيم وقفة احتجاجية عارضين صور الأطفال الفلسطينيين والمجاعة في غزة، يقول هذا الفريق إن فعل المقاطعة سوف يصبح مقبولا لو كانت مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب في الدارالبيضاء أو القاهرة أو غيرهما من الدول العربية، أما أن نذهب إلى دولة مثل فرنسا ونملي عليها من يشارك في معارضها، فهذا أمر في غير صالح الثقافة العربية، وسيشجع إسرائيل على المشاركة في كل الأماكن التي ستطمئن إلى أن العرب سيهربون منها.