[email protected] ذاتَ لقاء بمُراكش، قاطعَ أحدُ المشاركينَ كلمة أحدِ المتدخلين، مُطالباً، في ضجَر، أن تُلقى المُداخلات بالعربية بدَل الفرنسية، مبَرراً طلبهُ بأن «كُلْ الحاضْرين مْغاربة»، وبأنه لا يوجد في القاعة «فْرانْساوي واحدْ». مُسيرُ الجلسة، الذي بدا أن الطلب فَاجأه، لم يجدْ أمامَه سوى التوجه إلى صاحب الطلب بسؤال مضاد، قائلاً: «امْنين انْت؟». «منْ قلْعةْ السْراغْنة»، أجابه المشارك. «مُقاويل ؟»، سأله المسير، من جديد. «إيييه»، قبل أن يَغُوصَ في مقعده. تبادل المسير والمتدخل نظراتٍ حائرة، قبل أن يقفز هذا الأخير، في لمح البصر، على فأرة الحاسوب لينتقل من الملف «الفرنسي» إلى آخر مكتُوب بالعَربية، ولينخرط في إلقاء مداخلته بعربية فصيحة، بسلاسة يُحسد عليها. سؤال «امْنين انْت؟»، الذي طرحه المُسيّر على المقاول السرغيني، فاجأ كثيرين. فقد بدا في مضمونه كثيرٌ من الاستعلاء والاستخفاف برغبة رجل في منتصف الستينيات من العمر في أن يعيش مغربيته كاملة: مقاولٌ مغربي جاء مراكش المغربية من قلعة السراغنة المغربية ليشارك في لقاء تحسيسي مغربي يُنظم لفائدة مقاولين مغاربة داخل قاعة مغربية تابعة لفندق مغربي. شيخٌ لا يفقه في الفرنسية كلمة «بونجور» (ومن يدري، فربما كان في مستطاعه أن يتكلم الفرنسية كشرب الماء)، وله كامل الحرية في ذلك، تماماً كالفرنسيين الذين لا يفقهون في العربية جُملة واحدة، لكنهم يشاركون في لقاءاتهم، التي تنظم في تولوز أو باريس، ويناقشون مَحاورها بلغتهم الأم وليس بالعربية أو العبرية. سؤال «امْنين انْت؟»، قد يبدو في هذه الحالة، من نفس صِنَافة أسئلة أخرى، من قبيل «اشْكون انْت؟» و«آشْ تْكون انْت؟» و«ولْد منْ انْت؟». أسئلة ٌتُكرس، للأسف، حالة مغرب واحد وموحد في جغرافيته، لكنه متعدد ومتباين في قناعات واختيارات كثير من ناسه. والواقع أن ما جرى، خلال هذا اللقاء، لم يكن إلا مثالاً للعشرات من اللقاءات والمؤتمرات والندوات التي تنظم في مراكش، وفي غيرها من مدن وقرى المملكة، والتي يتم الإصرار، خلالها، على الحديث والنقاش بالفرانساوية، على الرغم من أن الدستور المغربي يقول في تصديره إن «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية». في مثل هذا الواقع «المُفَرنس» (من «الفرانساوية» وليس من «التْفرْنيس»)، يبدو أن أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي فرد منا، ممن يبدو «مُعرباً» في لغته واختياراته اللسانية وثقافته ونمط حياته، هو أن يجد نفسه يحضُر لقاءً يبدو، من خلال الهَالة التي تصاحبه ومن مَدْعُويه والمداخلات التي تؤثث لجَوّه العام، «مُفرنساً»، ابتداءً من الملفات الصحفية ووثائق اللقاء، وانتهاءً بالحلويات والعصائر التي تقدم خلال الاستراحة. أن تجد نفسك وسط هذه الأجواء يعني أن تشعر، رُغماً عنك، بأنك أقل قيمة من «المُفرنسين»، وأنك مختلفٌ، وربما متخلفٌ وجديرٌ بالشفقة. في مثل هذه اللقاءات، ربما حاولتَ أن تُقنع نفسك باقتناص أول فرصة للانخراط في ساعات ليلية تمكنك من تعلم الفرنسية وضبط سُبل الحديث بها، صِواتة ولساناً. وربما، بدوتَ، وأنت تائه بين الحاضرين، كما لو أنك خارج للتو من خيمة عنترة بن شداد، فيما يعلو وجهك صهدُ وغبارُ صحراء شبه الجزيرة العربية. ربما، أحسستَ بالاختناق في حلقكَ وفي خاطركَ. وربما، تذكرتَ كلاماً كان كتبه الشاعر أدونيس، ذات كتاب، قال فيه إن العربية «لغةٌ تُحاصر وتُقمع وتُنفى، من كل صوب، بحيث إنها تكاد تختنق، بل إنها تحتضر في حناجرنا». سيَكُون عليك أن تخرج من حيرتك في أسرع وقت، حتى تتمكن من الدفاع عن اختياراتك، في نوع من ركوب الضدْ. وفي النهاية، ستجمع نفْسَك وحقيبتك، لتودع كُرسيك غير آسف. وفي الخارج، ستؤكد لك «الميكة الكحلة» أنك لازلت في المغرب. ستأخذ نفَساً عميقاً، قبل أن تُردد جُملتَك، بصوت تردده خطواتك المتسارعة.. «اللي ابْغَا الفرانساوية يمْشي لفْرانسا»!