نشرت مختلف الصحف المغربية خبر صدور بلاغ صحفي مؤرخ ب17 يناير 2008 وموقع من طرف السيد فؤاد عالي الهمة، الوزير السابق المنتدب في الداخلية، ومجموعة من الشخصيات المنتمية إلى عالم المال والأعمال والثقافة والبحث والإعلام والميدان الحقوقي ووزراء حاليين وسابقين. وأعلن البلاغ أن «ثلة من الفعاليات المنتمية إلى آفاق مهنية ولمشارب فكرية وثقافية وحساسيات سياسية وجمعوية متنوعة» قد عقدت «سلسلة من المشاورات اتخذت، خلال الأسابيع الأخيرة، طابع اجتماعات منتظمة للتداول في التحديات والانتظارات والأسئلة المرتبطة بالمرحلة، بما فيها دلالات نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة». كما أشار البلاغ إلى أن المشاورات أفضت إلى تأكيد عزم المشاركين فيها على «الانخراط بإرادة ومسؤولية، في مسعى وطني يدعو إلى العمل من أجل وعي ديمقراطي متجدد»، وعلى استشعارهم «ضرورة مبادرة وطنية مفتوحة» تهدف إلى العمل «من أجل حركة لكل الديمقراطيين». وخلصت أغلب التحليلات التي تناولت موضوع البلاغ إلى اعتباره مندمجا في مسار حزب سياسي جديد مقرب من الدولة أو «حزب الدولة»، على غرار السيناريوهات الماضية التي عرفتها بلادنا والمتمثلة في إنشاء أحمد رضى اكديرة لجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية وإنشاء أحمد عصمان للتجمع الوطني للأحرار وإنشاء المعطي بوعبيد للاتحاد الدستوري. وسبق أن ساد الوسط الصحفي والسياسي انطباع عام، عقب تقديم السيد فؤاد عالي الهمة لاستقالته، بأن هذا الأخير تصرف وفق ترتيب سياسي مسبق، يروم خلق حركة سياسية تعيده إلى سدة المسؤولية الحكومية وربما إلى موقع الوزير الأول، وبأن هناك ربما نية رسمية متجهة إلى التدخل المباشر لمعالجة إشكال الوضع الحزبي المعطوب، بواسطة كائن سياسي جديد قادر، حسب مؤسسيه، على أن يشكل البديل الحقيقي لنخب متهالكة، ويحد من المد الأصولي، ويمثل قيم التحديث والعقلنة والفعالية الميدانية والارتباط بالناس. إذا ترتب عن المبادرة المشار إليها في البلاغ ظهور حزب سياسي -علما بأن المؤشرات المتوفرة حاليا ترجح هذا الاحتمال- سنكون فعلا أمام سيناريو يتكرر بحذافيره، وحصل بالكيفية ذاتها التي تصورها الناس قبلا، دون أي مجهود يذكر في الابتكار، وسنكون أمام عقلية رسمية يسكنها الماضي وتجتر وصفاته وتعيد إنتاج أساليب عتيقة وتجارب تقليدية يتوفر لها من شروط الفشل أكثر مما يتوفر من شروط السداد والنجاح. عندما نتأمل نص البلاغ، سنلاحظ أنه يتسم بالوضوح في جانب منه، وبالغموض في جانب آخر. فالبلاغ واضح في رسم التوجه العام الذي يحكم موقعيه والرؤية «الاستراتيجية» التي ينطلقون منها، ويتجلى ذلك على الخصوص من خلال: * الحديث عن الانتصار للقيم الديمقراطية منهجا والسعي إلى الحداثة أفقا، وطبعا فكل إشارة -في نص قاعدي يمثل أرضية التأسيس لفعل سياسي- إلى الديمقراطية والحداثة مجردتين من أي تذكير بمقولة العدالة الاجتماعية والتضامن، تعني أن الاختيار المتبنى بكل جلاء هو الليبرالية. وقد يتم تدارك هذا الخصاص «اللغوي» مستقبلا في أرضيات صادرة عن الجهة ذاتها، تلمح في أحسن الأحوال إلى اعتماد الليبرالية «الاجتماعية». * الحديث عن التزام خطاب الواقعية، يعني بكل بساطة استبعاد فكرة التغيير الجذري للبنية المؤسسية، أي أن الموقعين على البلاغ يؤكدون الخضوع لسقف القواعد الأساسية لطريقة الحكم والتدبير في بلادنا، ولا يعتبرون أنها تمثل مشكلا ما. فبلاغ الهمة، يرى الخلل خارج الدولة وخارج بنيتها، ويعثر عليه في الحقل الحزبي فقط، متمثلا في «تراجع مساهمة النخب الوطنية بمختلف مشاربها ومواقعها إزاء مهمات تأطير المواطنين وتعبئتهم وإشراكهم في صياغة حاضرهم ومستقبلهم» مما نجم عنه «واقع السلبية واللامبالاة». إذن هناك في البلاغ ما يفيد الارتياح إزاء المسار السياسي العام بالبلاد وسلامة الاختيارات الرسمية القائمة، فالمطلوب هو الحفاظ على تلك الاختيارات ودعم وتعزيز ذلك المسار. * الحديث عن اعتماد سياسة القرب من المواطنين أسلوبًا، يترجم هاجس الخوف من استئثار الإسلاميين بنسج روابط التواصل مع عموم الناس البسطاء أو تزايد درجة تفوقهم في استراتيجية القرب التي تدر عليهم ربحا انتخابيا وفيرًا وتؤمن لهم مساحات واسعة للإشعاع الإيديولوجي والتعبئة التنظيمية. والبلاغ غامض في ما يتعلق بطبيعة ومحتوى الخطوة التي يبشر بها، فالنص يؤكد أن الفعاليات التي عقدت سلسلة من الاجتماعات والمشاورات وتوصلت إلى اعتماد صيغة البلاغ، عازمة على الانخراط في «مسعى وطني»، وأنها مستشعرة لضرورة «مبادرة وطنية مفتوحة» هادفة إلى العمل من أجل «حركة لكل الديمقراطيين». لم يكشف البلاغ عن هوية الإطار الذي يجري تأسيسه، ولم يقدم ما يكفي من العناصر التي تسمح لنا بالجزم مثلا بأننا أمام جمعية، أو لجنة تحضيرية لجمعية أو حزب، أو هيئة تنسيق بين إطارات وفعاليات، أو مجرد فضاء مفتوح للنقاش في قضايا تهم الشأن العام. وفي هذه الحالة الأخيرة لم يكن من الضروري أن يتم تحديد ملامح مشروع سياسي والحديث عن «حركة» وعن أسلوب للعمل مع المواطنين، بمعنى أن المشاركين في ذلك الفضاء ليسوا مطالبين، حسب البلاغ، بالحوار بين بعضهم البعض فقط، بل بالتوجه إلى المواطنين في إطار عمل سياسي مشترك. قبل أسبوعين من بدء الحملة الانتخابية لاقتراع 7 شتنبر 2007 أوردت وكالة المغرب العربي للأنباء خبرا عن إعفاء السيد فؤاد عالي الهمة من مهامه الوزارية بطلب منه وقراره خوض غمار المنافسة الانتخابية بدائرة الرحامنة. حينها قال الهمة: «إن مبادرتي بسيطة وصادقة ولم تملها أي أجندة سياسية»، وأضاف: «إن بلدي وملكي، نصره الله، أعطياني كل شيء. وسأبذل قصارى جهدي لأكون في مستوى ما حصلت عليه، حيث أنني أعمل بكل ما لدي من طاقة وجهد لخدمة جهتي» و«سأسخر كل طاقتي في خدمة مواطني جهتي، من أجل المساعدة على الإقلاع السوسيو-اقتصادي ومواكبته ولمواجهة تحديات المستقبل»، وأكد أن طموحه «يندرج ضمن الواجب الملقى على عاتق كل مواطن والمتمثل في المشاركة في بناء جهته في الإطار الوطني». هذا الكلام ينطوي على رسالة واضحة، وهي عدم وجود أجندة سياسية، هناك فقط حرص على خدمة سكان منطقة بعينها، وسعي إلى حل مشاكلها والنهوض بها. بعد فوز السيد فؤاد عالي الهمة في الانتخابات التشريعية، وجدنا أنفسنا أمام معطيات جديدة، جعلت التصريح السابق بعدم وجود أجندة سياسية، يبدو وكأنه قيل للتطمين اللحظي ولا يعكس حقيقة الأشياء، فالمعني بالأمر: - سيباشر تكوين فريق نيابي يضم 36 عضواً. - سيصبح المتحكم في مصير الحكومة بواسطة أصوات فريقه الضرورية لاستيفاء العدد المطلوب لمنحها الثقة أو إسقاطها. - سينتخب كرئيس للجنة الخارجية بمجلس النواب. - سيفجر قنبلة البلاغ الصحفي المعنون ب«من أجل حركة لكل الديمقراطيين». - سيكون من الصعب أن نصدق إذن أن كل هذا جرى صدفة، وأن كل هذه المبادرات تمت في سياق عفوي غير خاضع لأي تخطيط مسبق. وأصبح من حق الجميع أن يسائل السيد الهمة عن مصير الكلام الذي سبق أن أدلى به عند مغادرته كرسي الوزارة. فهل كان تكوين فريق نيابي ورئاسة لجنة العلاقات الخارجية مثلا ضروريين لخدمة دائرة الرحامنة ولتنمية الجهة؟! واليوم، وبعد أن انتقل السيد الهمة إلى طرح أجندة سياسية وطنية ذات تأثير بالغ على حياتنا السياسية، خلافا لما سبق أن صرح به، وبعد أن بادر مع شخصيات أخرى إلى إعلان انخراطهم في أفق «حركة لكل الديمقراطيين»، هب الكثيرون لتوجيه سهام النقد إلى الخطوة الأخيرة التي أعلن عنها عبر بلاغ 17 يناير الجاري، معتبرين أنها غير سليمة وضارة بالديمقراطية، ومنطلقين من أنها طبعا مقدمة لإعلان ميلاد حزب سياسي جديد. هناك من نازع في سلامة العملية من زاوية مدى أهلية الشخص لقيادة حزب سياسي، فيكفي أن يكون وزيرا سابقا للداخلية أو مقربا من القصر أو مسؤولا عن ملفات أمنية عرفت الكثير من التجاوزات، لكي تصبح مبادرة إنشائه لحزب سياسي مدعاة لكثير من التحفظ. وهناك من نازع في سلامة العملية من زاوية أن وجود عدد من رجال المال والأعمال المعروفين بثرواتهم الضخمة، سيوفر للحزب الوليد إمكانات غير متوفرة لغيره، وبالتالي سيمس بمبدأ تكافؤ الفرص بين الأحزاب. وهناك من نازع في سلامة العملية من زاوية المواقع الحساسة التي يشغلها بعض موقعي بلاغ 17 يناير على رأس مؤسسات عمومية «مؤتمنة على مصالح حساسة واستراتيجية لكل الوطن» (صندوق الإيداع والتدبير تحديدا). إلا أننا لا نرى من حيث المبدأ أن وزير داخلية سابق يجب أن يحرم أوتوماتيكيا من حق تأسيس حزب، خاصة أنه يفترض، حسب المعايير الديمقراطية أن يكون منتميا، إذ لا معنى حسب تلك المعايير لوزارات السيادة. ولا نرى أن صداقة المعني بالأمر مع شخص الملك تنقص من أهليته السياسية في بلد ديمقراطي، ولا نرى أن المسؤولية عن تدبير الملفات الأمنية، حتى وإن ترتب عنها حصول تجاوزات وانتهاكات، تفرض حتما تجريد المسؤول السابق من حق المشاركة في الحياة السياسية، ما لم تحدد المسؤوليات عن الوقائع الماسة بحقوق الإنسان وفق المسطرة المعمول بها في المساءلة قضائيا ودستوريا. طبعا يبقى في هذه الحالة للناخبين حق إيقاع الجزاء على الشخص عن «سوء تدبيره» بعدم التصويت عليه أو على حزبه. أما وجود رجال مال وأعمال أو مدراء مؤسسات عمومية ضمن مؤسسي حزب معين، فلا يحرم الأحزاب الأخرى من حق استقطابهم وتنظيمهم في صفوفها، مادام النظام الديمقراطي يوفر آليات المراقبة الكافية على تدبير المال العمومي وتدبير المال الخصوصي بما يجعل المواطنين مطمئنين على مصالحهم ومصالح بلادهم وعلى مدى احترام قواعد الشفافية والحكامة والقوانين. هذا إذن من حيث المبدأ، إلا أن الأمور في السياق المغربي تطرح مشاكل وتعقيدات لا يمكن الالتفاف عليها وتجاهلها. فخبر التحضير لإنشاء حزب جديد من طرف فؤاد عالي الهمة، لا يمكن إلا أن يجعل «كل الديمقراطيين» يضعون أياديهم على قلوبهم خوفا من حصول انتكاسة ديمقراطية أخرى ينضاف أثرها إلى سلسلة خيبات الأمل التي تخالج المواطن المغربي اليوم. والقضية ليست قضية رفض الاعتراف للشخص بمواطنته وحقه في العمل السياسي مثل بقية المواطنين المغاربة، بل هي بالضبط قضية الضمانات بأنه فعلا سيمارس السياسة مثل بقية المواطنين المغاربة. إن التخوف من تمتعه بنظام امتيازي أو ريع سياسي ليس دائما وليد عقلية منافسين عاجزين، بل تعززه القرائن القائمة اليوم، والتجارب المريرة بالأمس. والسؤال المطروح هو هل فعلا سيستطيع السيد الهمة أن يثبت أن كل ما قام به إلى حد الساعة وما ينوي القيام به مستقبلا، لا تتدخل فيه مكانة الشخص في الدولة ومكانته بجانب الدولة، ولا تؤثر في نتائجه وثماره. وبعبارة أخرى كيف يثبت أن علاقته بالقصر، لم توظف ولن توظف في تمكين الحزب السياسي، الذي هو قيد الإنشاء، من وسائل خاصة غير متاحة لغيره، وجعل الحزب المذكور مرتبطا بالدولة بعلاقة عضوية وتعبئة الأجهزة الإدارية لصالح تقديم خدمات استثنائية للحزب. إن هناك حتى الآن على الأقل ثلاث قرائن تغلب الاعتقاد أننا نوجد اليوم أمام مشروع حزب جديد للدولة: الأولى مستمدة من الماضي وسوابق الماضي، فمشروع الهمة يخضع كما نعاين ذلك لذات المسلسل الذي أفضى سابقاً إلى ظهور كائنات سياسية مرتبطة بالدولة ارتباطا لم يعد يجرؤ أحد على نفيه الآن. لقد تم استنساخ نفس التفاصيل والشعارات والمنطلقات والعمليات التي اعتمدت في السابق وأعيد اعتمادها حتى تعود المغاربة عليها وخبروها. والثانية متعلقة بخرق ما يشبه الالتزام الذي تم الإعلان عنه عقب مغادرة السيد الهمة لمنصبه، حيث أكد عدم وجود أجندة سياسية ترتبط بتلك المغادرة، وظهر في ما بعد أن هناك أجندة سياسية كثيفة ومثيرة. فما الداعي إلى محاولته في الأول إبعاد فرضية وجود الأجندة السياسية مادامت في الأصل هي مجرد ممارسة طبيعية لحق من حقوق المواطنة. والثالثة متصلة بالسرعة التي اتخذها مسار الأحداث، فكيف ينجح مواطن واحد، بين عشية وضحاها، عبر زمن قياسي، في مراكمة هذا السيل من العمليات السياسية بالغة الأثر. هذا يؤدي إلى جعل شبهة «حزب الدولة» قائمة، والإشكال في مثل هذه الحالة يهم ثلاثة أطراف: الشخص المعني والقصر الملكي والجهاز الإداري. هذه الأطراف هي التي تستطيع أن تفند تلك الشبهة، وهذا لا يكون بالأقوال والتصريحات، بل باحترازات ملموسة على الأرض، وفي مقدمة تلك الاحترازات قبول تبني القواعد التي تحول الدولة عندنا إلى هيئة اعتبارية فوق الجميع وليس إلى طرف في الصراع السياسي والاجتماعي.