إن عام 2008 هو عام الانتخابات الأمريكية على كل المستويات: الرئاسية، والنيابية، وحكّام الولايات والمجالس المحلية. ولكن أهمها جميعاً هو الانتخابات الرئاسية، التي يتنافس عليها أساساً حزبان كبيران، هما الحزب الديمقراطي، وهو على يسار الوسط، والحزب الجمهوري، وهو على يمين الوسط. وهناك أحزاب أخرى، وأكثر راديكالية إلى اليمين وإلى اليسار، ولكنها لا تؤثر كثيراً على المجرى الرئيسي للمنافسة بين الحزبين الكبيرين، وخاصة على منصب الرئيس الأمريكي، ويلي ذلك من حيث الأهمية، انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب. ولأهمية المنافسة على منصب الرئيس، فإن السباق يبدأ مبكراً، داخل كل حزب أولاً، خلال الشهور السبعة الأولى من عام الانتخابات، ثم بين الحزبين في الشهور الثلاثة التالية، إلى أن تحسم يوم الثلاثاء الأول من نوفمبر، على أن يتولى الفائز مقاليد المنصب، يوم 20 يناير من العام التالي (2009). وأقرب تشبيه لهذه العملية التنافسية هي مباريات دوري كرة القدم، التي تمر بمراحل متتالية من التصفيات، إلى أن تصل المنافسة إلى المباراة النهائية لتقرير بطل الدوري. والفارق الرئيسي هو أن مباراة الرئاسة الأمريكية تتم كل أربع سنوات، وكانت المباراة الأولى في دوري الانتخابات الرئاسية على ملعب ولاية «أيوا» (Iowa) يوم 3 يناير. ورغم أنها ولاية صغيرة من حيث حجمها السكاني، وتمثيلها لبقية الولايات الخمسين، إلا أن كونها المباراة الأولى أضفى عليها أهمية خاصة. وكان أهم اللاعبين في دوري الحزب الديمقراطي هم السيناتور هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون. وهي الأكثر شهرة والأوفر مالاً، والأقدم خبرة. وهي أول امرأة تدخل هذه الحلبة. وكان اللاعب الثاني المنافس لها هو السيناتور باراك ح. أوباما، أول أمريكي من أصل إفريقي، يقتحم حلبة المنافسة الرئاسية، داخل الحزب الديمقراطي. وكان هناك لاعبون آخرون، منهم حاكم ولاية كارولينا السابق، الطبيب جون إدواردز، والسفير السابق بيل ريتشارد سون، والسيناتور جوزيف بايدن. ولكن الأنظار تركزت على الاثنين الأكثر جدة وجدية، وهما هيلاري كلينتون وباراك ح. أوباما. وانبرت مراكز قياس الرأي العام لإجراء الاستفتاءات حول شعبية كل من هيلاري وباراك، وقابلية كل منهما للانتخاب كرئيس للولايات المتحدة، حيث لم يحدث أن تم انتخاب امرأة أو أمريكي أسود لهذا المنصب من قبل. وإلى اليوم الأخير قبل إجراء الانتخابات الأولية في ولاية أيوا، كانت الاستفتاءات تشير إلى حدة المنافسة، ولكن مع إعطاء هيلاري المركز الأول، بفارق واحد أو اثنين في المائة. ولكن الذي حدث في الليلة الأخيرة قبل الانتخابات الأولية، أذهل الجميع. فقد جاءت النتيجة على عكس كل التوقعات. فقد حصل أوباما على المركز الأول، بينما جاءت هيلاري كلينتون لا في المركز الثاني ولكن في المركز الثالث، بعد جون إدواردز. واعتبرت صحيفة الواشنطون بوست هذه النتائج بمثابة «زلزال» (Earthquake) في السياسة الأمريكية. واعتبرته صحيفة النيويورك تايمز بمثابة «ثورة» (Revolution)، وذهب معلقون أمريكيون إلى أن استمرار باراك أوباما في الفوز في الانتخابات الأولية للولايات هو ما بات محتملاً. ولكن المباراة الثانية على أرض ولاية نيوهامبشاير سببت ذهولاً آخر للمراقبين، حيث عادت هيلاري كلينتون إلى المركز الأول، وإن يكن بفارق نقطتين مائويتين فقط. وهو ما يوحي بأن مرشح الحزب الديمقراطي سيكون محصوراً بينهما، وهذا في حد ذاته يمثل بالفعل ثورة اجتماعية سياسية. وربما تكتمل هذه الثورة المنتظرة بانتخاب أحدهما رئيساً والثاني نائباً للرئيس. وسنركز في هذا المقال على تعريف القارئ العربي بباراك حسين أوباما، الوافد الجديد، ثم نعود في مقالات تالية إلى هيلاري كلينتون ومرشحي الحزب الجمهوري. حقيقة الأمر أن باراك أوباما، ليس كأي «زنجي»، وليس كأي «أمريكي»، وليس كأي «زنجي-أمريكي» آخر. فكثير من الزنوج يشككون في «زنجيته»، حيث إن والده فقط هو الذي ينحدر من أصول زنجية إفريقية (كينيا)، أما والدته فكانت من أصول أوروبية بيضاء. كذلك فإن «أمريكيته» مشكوك فيها، حيث إنه قضى نشأته الأولى، كطفل، مع زوج أم إندونيسي مسلم، في إندونيسيا. ثم حفر المنقبون في أصل الرجل وفصله، ماذا عن حرف «H»، الذي يتوسط باراك اسمه الأول، وأوباما، اسمه الأخير؟ ليتوصلوا إلى أن الاسم الوسيط الذي يُرمز له بحرف «H» هو «حسين» (Hossain). وكان إيحاء نشر تلك المعلومة هو أن باراك أوباما، ربما يكون ذا أصول «مسلمة». كما أن مجرد وجود اسم «حسين» مرتبطاً بباراك أوباما يثير في الوعي الأمريكي صورة «صدام حسين» بكل سلبياتها. ثم تأكدت بعض هذه الإيحاءات السلبية، باقتباسات من كتاب لباراك أوباما عن نشأته بعنوان «أحلام أبي» (Dreams of my Father)، حيث يقول في أحدها إن من أجمل ما كان يسمعه كطفل في إندونيسيا هو صوت «الأذان» للصلاة، من منارات المساجد، في جاكرتا. ولم يأخذ باراك أوباما من هذه التشكيكات في «عرقيته» أو «وطنيته» أو «ديانته» موقفاً دفاعياً أو اعتذارياً، بل اكتفى بالقول: «أيا كان أصلي أو فصلي، فها أنا أمامكم، وهذه أفكاري، وذلك هو برنامجي لتغيير أمريكا، وإعادة زرع الأمل في شعبها، وعلى الناخبين أن يختاروا بملء إرادتهم الحرة». ويبدو أن هذا الموقف الواثق راق للكثيرين، وخاصة من الشباب والنساء. والشاهد أن هذه التشكيكات والتحفظات على باراك حسين أوباما، لم تؤثر سلباً على شعبية الرجل عند معجبيه ومريديه، بل بالعكس تماماً، حيث وجد الناس فيه طزاجة في اللغة، أو شفافية في تقديم «الذات» أو «النفس»، بلا ادعاء أو خداع. ولأنه كذلك تذكر كثيرون «جون كيندي»، قبل خمسين عاماً، حيث ظهر على المسرح الأمريكي كأول «كاثوليكي» في التاريخ الأمريكي يطمح إلى أن يكون رئيساً للولايات المتحدة، في وقت (1960) كان فيه كل الرؤساء الفعليين أو الطامحين ينتمون إلى الأغلبية «البيضاء البروتستانتية». أي أن جون كيندي كان خروجاً عن المألوف، وعن القواعد المستقرة في التاريخ الأمريكي منذ الاستقلال قبل مائتي سنة تقريباً. وكون الأغلبية الأمريكية، غير الكاثوليكية اقتنعت بشخصية جون كيندي الكاثوليكي، وانتخبته رئيساً، ضد منافسه البروتستانتي، ريتشارد نيكسون، اعتبر، في وقتها، قفزة نوعية في النضج الاجتماعي السياسي الأمريكي. ومن وقتها توقف معظم الأمريكيين عن السؤال عن الطائفة الدينية لأي مرشح لمنصب سياسي. وها هو باراك حسين أوباما يوشك أن يقفز بمجتمعه قفزة نوعية جديدة، يتخطى فيها الأمريكيون حاجز الجنس، العنصر، لون البشرة... وبهذا المعنى، سواء نجح أوباما في الوصول إلى خط النهاية وأصبح رئيساً لأمريكا أم لا، فإن ما أنجزه إلى الآن بتحقيق هذا القبول الواسع لشخص من خارج الأغلبية المعتادة، يعتبر في حد ذاته ثورة اجتماعية غير مسبوقة أمريكياً. أما إذا اجتاز خط النهاية، وأصبح رئيساً لأمريكا، فإن «الثورة» ستتحول إلى ثورة عالمية. وهذه هي الأسباب: السبب الأول، أنه شاب، حيث لم يتجاوز 46 عاماً. وهو بالمعايير الأمريكية، لايزال شاباً. وفي ذلك فهو تماماً مثل جون كيندي، الذي كان في أربعينات العمر حينما انتخب رئيساً. وكونه شابا يجعله أكثر إقبالاً وتقبلاً للأفكار الجديدة والمبادرات غير التقليدية. السبب الثاني، هو أنه من أكثر من تصدوا لهذا المنصب تعليماً. وقد يبدو هذا غريباً في مجتمع أغلبيته من الجامعيين. ولكن من كل رؤساء أمريكا السابقين، والذين يصل عددهم إلى حوالي الخمسين، لم يكن يحمل شهادة الدكتوراه منهم إلا واحداً فقط، وهو الرئيس دودرو ويلسون، (1914-1918)، وهو صاحب المبادئ الأربعة الشهيرة التي ألهمت الثورات الوطنية في فترة ما بين الحربين، ومنها ثورة 1919 في مصر، وثورة 1920 في العراق، والثورة الكمالية في تركيا (1924). والسناتور باراك حسين أوباما، حاصل على الدكتوراه في القانون الدولي، من أعرق الجامعات الأمريكية، وهي هارفارد، وكان أستاذاً جامعياً للقانون الدستوري في جامعة شيكاغو لعدة سنوات، قبل أن يدخل معترك السياسة. السبب الثالث، أنه متعدد الثقافات. فقد نشأ في أسرة مزدوجة الأجناس والأديان، وعاش في ثلاث ثقافات: أمريكية وآسيوية (إندونيسيا) وإفريقية (كينيا). وهذه النشأة التعددية، إما أنها تصيب صاحبها بالضياع، حيث تختلط الهويّات وتخلق فوضى نفسية ووجدانية، أو أنها تخلق إنساناً صلباً، ذا أفق واسع ومتسامح. ويبدو من كل شيء نعرفه عن الرجل أن هذه التعددية الثقافية جعلت منه شخصية صلبة، معتدة بذاتها، وليست خائفة من التعامل مع «الآخر» مهما كان مختلفاً. من ذلك إعلانه الاستعداد لمقابلة أي زعيم عالمي، من كاسترو إلى شافيز، إلى الأسد، إلى أحمدي نجاد، إذا كان ذلك يحقق السلام في العالم. لذلك يُعتبر صعود باراك حسين أوباما، كسباً عالمياً. والله أعلم