سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عطوان: الصحف السعودية اتهمتني بأنني عميل لإسرائيل وأن "القدس العربي" تمولها الموساد قال إن زوجة سليم اللوزي اتصلت به باكية وأخبرته بأنها مرتاحة لانكشاف حقيقة موته
قليلة هي تلك السير الذاتية التي تعكس التاريخ مثلما تعكس سيرة حياة عبد الباري عطوان أحداث زمانه. فقد ولد عبد الباري عطوان في مخيم للاجئين في غزة عام 1950، التي غادرها في السابعة عشر من عمره ليصبح أحد أهم المعلقين الصحفيين في قضايا الشرق الأوسط في العالم. عطوان يروي بصدق وروح عفوية في هذا الكتاب قصة رحلته من أوحال مخيم اللاجئين إلى رأس هرم صحيفة «القدس العربي». خلال رحلته يصور عبد الباري عطوان الرعب الذي سببته مذابح المخيمات والنتائج غير المتوقعة للتدخل البريطاني في المنطقة. كما يروي المآسي التي واجهته جراء تنقله من بلد إلى آخر، والصدمة الثقافية التي أحس بها عندما سافر إلى لندن في السبعينيات. ويحكي أيضا لقاءاته الصحفية مع شخصيات سياسية مهمة مثل مارغريت تاتشر وأسامة بن لادن وياسر عرفات والعقيد القذافي وشاه إيران. كما لا يخلو الكتاب من روايات عن تجارب شخصية وإنسانية كان أكثرها تأثيرا تجربة لقاء أولاده بريطانيي المولد مع عائلته في المخيم. معضلة أبوية كان ابني خالد قد ولد وتربى في لندن وورث عني ولعه بكرة القدم. وكانت تسيطر على عقله فكرة واحدة فقط هي أنه سيصبح ديفيد بيكهام القادم. كانت ثقته الكبيرة بمهاراته الكروية سببا في تهاونه فيما يتعلق بواجباته المدرسية ودراسته عموما. كان خالد لاعب كرة قدم جيدا، إلا أنني عرفت بخبرتي السابقة في هذا المجال أنه لم يكن بالبراعة الكافية للعب في دوري الدرجة الأولى، وحتى إن كان قادرا على الالتحاق بذلك الدوري فقد كانت لدي عدة تحفظات على هذا الاختيار المهني غير مضمون العواقب. كانت تلك لحظة عصيبة في مشواري الأبوي، نظرا لكوني كأي أب لا يريد أن يحبط أبناءه أو أن يحط من ثقتهم بأنفسهم. كان حل هذه المعضلة قد أتاني على شكل برنامج تلفزيوني بريطاني يدعى «أكاديمية تدريب نادي تشيلسي لكرة القدم». وقد أظهر البرنامج كيف أن آلافا من الشباب البريطاني سجلوا أنفسهم ليشتركوا في هذا البرنامج، ولم يختاروا منهم غير ثلاثة شبان فقط، ومن هؤلاء الثلاثة وقَع الشاب جودي موريس وحده عقدا مع فريق تشيلسي. ورغم أشهر من التمرين الشاق والمعاملة القاسية على أيدي المدربين، لم يلعب جودي موريس غير مرة واحدة في عامه الأول مع تشيلسي. وكنت شاهدت افتتاح البرنامج مع زوجتي باسمة وقررت أن أفضل طريقة لجعل خالد يتخلى عن أحلامه الكروية هي أن يشاهد هذا البرنامج. وقد أفلحت هذه الطريقة بالفعل، وتقبل خالد فكرة أن عليه أن يسعى إلى هدف آخر، وبدأ منذ ذلك الحين في بذل مجهود جيد في الدراسة هذه المرة. إلا أن ذلك لم يمنعه من لعب الكرة في فريق المدرسة وبعد ذلك في الجامعة. وكانت مشاهدة أدائه الكروي مصدرا للفخر والسعادة لنا جميعا. وبالمناسبة كان أحد أصدقاء خالد هو بريت جونسون، الذي استطاع فعلا أن يصبح لاعبا محترفا في فريق نورثابتون تاون بالدرجة الأولى. مهنة المخاطر كنت منذ صغري مهووسا بالصحف. وكان قليل من الأشخاص في المخيم يحظون برفاهية شراء الجرائد الجديدة، لكن الجرائد القديمة كانت تباع بثمن رخيص من قبل بعض الباعة الذين ينشرونها على الأرض بجانب المجلات التي تآكلت. في ذلك الوقت عقدت اتفاقية مع الرجل الوحيد الذي يملك كشكا للصحف في المخيم. كان الاتفاق ينص على أنه يمكنني أن اقرأ الصحف اليومية وأن أرجعها بعد ذلك إلى مكانها مقابل عدة قروش. وكان شرط بائع الصحف ألا أقوم بترك أي علامة على الجريدة تدل على استعمالها مثل القيام بطي صفحاتها. كان أخي عبد الفتاح قد أقنعني بأهمية قراءة الصحف وكان يقول لي و هو يشير إلى مظهره انه يمكن معرفة شخصية أي رجل من خلال عناوين الجريدة التي يقتنيها. في بداية السبعينيات كانت الصحافة الحرة نسبيا في العالم العربي تتخذ من لبنان مقرا لها حيث كانت بعض الصحف ملكية خاصة، مقابل الصحف الحكومية التي تتحكم بها أجهزة الدولة. كان هناك العديد من الصحفيين الذين كنت أقدر كتاباتهم كثيرا مثل غسان تويني، الذي كان يكتب وقتها ل»النهار» اللبنانية ومحمد حسنين هيكل، الذي كان محررا بجريدة «الأهرام» المصرية. كنت أحترمهم لأنهم امتلكوا الشجاعة في التعبير عن آرائهم حتى عندما كانت هذه الآراء تتعارض بشكل صارخ مع الخط الرسمي وتعرضهم للمشاكل. فهيكل على سبيل المثال سجن لمدة ثلاثة أشهر لانتقاده الصريح للرئيس السادات. بعض الصحفيين العرب دفعوا حياتهم ثمنا لجرأتهم في التعبير كما حدث في حالة سليم اللوزي، الذي كنت أكن له الكثير من الاحترام والتقدير، والذي كان قد أسس مجلة «الحوادث» الأسبوعية. كان سليم قد هرب من لبنان كما فعل كثير من الصحفيين إثر اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. وكانت وسائل الإعلام قد بثت خبر وفاته بعد سنة أو أكثر من دون ذكر أي تفاصيل عن ملابسات موته، لكن أرملته أمية أخبرتني بما حدث فعلا لسليم: كان سليم قد قرر المغامرة بالذهاب إلى بيروت ليحضر جنازة والدته. وقد وجدت جثته مرمية في أرض خلاء بعد رجوعه إلى لبنان بفترة قصيرة. كان قد تم تعذيبه حتى الموت فقد قطعت أصابعه وتم حرق أطرافه بالأسيد. كان هذا اغتيالا سياسيا وكان هناك العديد من المشتبه بهم في اغتيال اللوزي، فقد كان ينتقد الكثير من الرجال المهمين والمنظمات الخطيرة، من العقيد القذافي والنظام البعثي في سوريا وانتهاء ببعض الفصائل الفلسطينية المتطرفة. لقد ظلت دوافع وهوية قاتلي اللوزي لغزا، ولكن مقتله كان مثل رسالة قوية لكل الصحفيين الذين تجرؤوا على انتقاد مراكز القوى في ذلك الوقت. كنت راغبا في الكتابة عن ملابسات موت اللوزي، إلا أنني لم أستطع فعل ذلك في حينه لأن الصحيفة التي كنت أعمل لديها لم ترد أن تستعدي الجهات والحكومات المتورطة في اغتياله. لم تتح لي هذه الفرصة حتى عام 1996 عندما دعتني «الجزيرة» للمشاركة في برنامج خصص لمناقشة الرقابة في وسائل الإعلام العربية، فتمكنت أخيرا من الحديث دقائق عن حقيقة ما حدث للوزي. وما أن بث البرنامج حتى اتصلت بي أمية، وتحدثت إلي باكية عبر الهاتف كيف أنها أحست بالراحة لأن الحقيقة كشفت أخيرا. من المعروف أن منظمة «مراسلون بلا حدود» الدولية تقوم بتقييم سنوي لوضعية حرية الصحافة في العالم. وفي عام 2006 أظهر تقرير المنظمة الدولية أن وضعية حرية الصحافة في العالم العربي لم تتغير كثيرا عن الوضع الذي كنت أعمل في ظله صحفيا في ذلك الوقت. فقد أظهر التقرير أن دولا مثل ليبيا و إيران وسوريا وتونس والسعودية العربية تمارس هيمنة الدولة على كل وسائل الإعلام. ومن ضمن كل الدول التي شملها التقييم تبين أن كوريا الشمالية هي أقل بلد توجد به حرية للصحافة بين 168 دولة، لكن دولا في الشرق الأوسط مثل إيران صنفت في الرتبة 162 وصنفت السعودية في المرتبة 161 وتخلفت عنها دول بدرجات قليلة مثل سوريا ومصر و الجزائر وليبيا و السودان والسلطة الفلسطينية. لكن مصطلح أقل حرية لا يعني بالضرورة الرقابة المفروضة على وسائل الإعلام، بل عدة وسائل لتقييد الحرية المدنية من دون الإشارة إلى ممارسات من قبل التعذيب والاختطاف والسجن وفي بعض الأحيان اغتيال الصحفيين. في الشرق الأوسط، مهنة الصحافة هي مهنة المخاطر إذا كنت تريد فعلا أن تنقل الحقيقة. أحمد الله أنني نجوت من الاعتقال والسجن خلال حياتي المهنية، ولكن هذا لا يعني أنني نجوت من عواقب جرأتي في الحديث والكتابة. فقد منعتني عدة دول، بما فيها السعودية ومصر وسوريا والكويت والعراق، من دخول أراضيها. كما أنني تلقيت عدة تهديدات بالقتل من حكومات عربية مستاءة من تغطيتي للأخبار. في عام 2004 كتبت عدة مقالات في صحيفة «القدس العربي» انتقدت فيها الأردنيين لانتهاكاتهم حقوق الإنسان، وبعد مدة قصيرة استدعت المخابرات الأردنية مراسل الصحيفة بسام بدارين، وأعطته الرسالة التالية ليوصلها إلي: «أخبر رئيسك في العمل أن أذرعنا طويلة جدا ويمكن أن تصل إليه في لندن». كانت لي أيضا تجربة مشابهة مع السلطات السورية في عام 1998 بعد أن نشرت حكايات لضحايا تعذيب يحكون عن تجاربهم المرعبة في السجون السورية. وحيث كانت تفشل التهديدات بالتصفية الجسدية كان البعض يعمد إلى تشويه السمعة والتشهير. ففي عام 2002 وخلال الحشد الأمريكي للغزو على العراق، شنت سبع صحف سعودية يومية حملة تشهير ضارية ضدي على مدى أسابيع. كنت ناقدا لاذعا لفساد الأسرة الحاكمة السعودية، وقد كان من الواضح أنها قررت أن تشكك في مصداقيتي تمهيدا لإخراسي. وبما أنها لم تكن تملك الكثير من الاتهامات لتكيلها لي فقد عمدت إلى اتهامي بعدة اتهامات سخيفة، منها أنني عميل إسرائيلي وأن «القدس العربي» تمولها الموساد، وأنني دمية في أيدي الاستخبارات الأمريكية يستخدمونها لتشويه صورة الأنظمة العربية. والمفارقة أن الإسرائيليين، في هذا الوقت، كانوا يشنون ضدي حملة تشهير أخرى ويقولون إن صدام حسين هو من يمول صحيفة «القدس العربي»!