كان جاكوب كوهين، وهو مراهق يهودي في ملاح مكناس الجديد، يلتهم الروايات البوليسية المليئة بقصص الجواسيس، ويتخيل نفسه بطلا من أبطالها، ويحلم أن تمتد إليه أيادي عائلة فرنسية ثرية تتبناه وتبعده عن «تسلط» والده الديني، وتخرجه من بؤس الملاح إلى ترف «المستعمرين».. حيث المسابح، ملاعب التنس وقاعات السينما، لكن أيادي «الموساد» كانت أسرع، لتستقطبه للعمل لصالح منظمة صهيونية سرية لإقناع الشباب اليهود المغاربة القادرين على حمل السلاح بالقتال في جيش «إسرائيل». على كرسي اعتراف «المساء»، يحكي جاكوب كوهين كيف كان عملاء الموساد يتنقلون في المغرب بحرية وكأنهم في «إسرائيل»، يكترون المنازل ويحولونها إلى مقرات لاجتماعاتهم دون أن يثير ذلك انتباه السلطات، وكيف كان الجنرال أوفقير يتخذ منهم رفاقه المفضلين في لعب «الورق»، وكيف أصبح الموساد ذات يوم وكأنه فاعل في المشهد السياسي المغربي بعد الاستقلال. وعلى كرسي الاعتراف أيضا، يروي جاكوب كوهين كيف وجد اليهود المغاربة أنفسهم بين مطرقة الموساد، الذي لجأ لكل الوسائل من أجل ترحيلهم إلى «إسرائيل»، وسندان حزب الاستقلال الذي حاربهم ودعا إلى مقاطعة تجارهم، ونخبة أهل فاس التي رأت في رحيلهم خلاصا لها، كما يحكي كيف تحول بعد زيارته لإسرائيل، من صهيوني إلى أكبر مناهض للصهيونية وإسرائيل، وكتب عددا من الراويات التي تفضح العالم الخفي لمنظمة استطاعت أن تخترق عالم السينما والموسيقى والإعلام والأعمال. – قلت إن أوفقير كان معجبا باليهود وعلاقته بهم لم تكن شيئا خفيا على معظم اليهود في الملاح، هل دفعه ذلك لتسهيل ترحيلهم إلى إسرائيل ؟ لقد اعتمدت سياسة هجرة اليهود إلى إسرائيل، فيما بعد، على الملك الراحل الحسن الثاني، فقبل فترة الحسن الثاني، كان المغادرون من اليهود باتجاه إسرائيل يقومون بذلك سرا، بعيدا عن أعين الأجهزة الأمنية وبعيدا عن أعين السلطات المغربية، كما كانوا يغادرون المغرب وبأعداد صغيرة لا تلاحظ، ثم جاءت الفترة، التي سمح فيها الحسن الثاني لليهود بالرحيل وفتح آنذاك الباب على مصراعيه لهجرة اليهود. – ما الذي دفع السلطات المغربية إلى التساهل مع ترحيل اليهود إلى إسرائيل؟ في فبراير من سنة 1961، غرق قارب كان فيه 43 من اليهود المغاربة، الذين كانوا يرغبون في الهجرة بشكل سري، حدث ذلك قبالة مدينة طنجة في ليلة عاصفة، يومها يمكن القول إن «الموساد، لم يقم بأي شيء لتجنب غرق القارب ولم يقدم على خطوات من أجل أن يمنع المأساة التي حدثت، وبعد غرق القارب، كانت هناك حملة صحفية دولية رهيبة، فقد أحدث غرق السفينة ضجة عالمية وكتبت يومها الصحف الغربيّة والعالميّة عن الحادث المأساوي للغرق، مشددة في تقاريرها التي أصدرتها يومها على أنّ اليهود الذين أرادوا الهرب من البلد العربي الإسلامي «المغرب» ماتوا غرقا في عرض البحر.وهكذا تنازل الملك الراحل الحسن الثاني، بسبب الضغوط التي شكلها الحاث، وتم الاتفاق على ترتيبات بين الطرفين، فكانت هناك تعويضات مالية على هجرة اليهود إلى إسرائيل، وكان أوفقير يحصل على حصصه من ذلك في مدخل ميناء الدارالبيضاء، وبالمقابل أغلقت السلطات المغربية عيونها عن التهجير الذي استهدف اليهود، وتغاضت عن مراقبة وثائق الراحلين والتدقيق فيها. – كيف تساهلت في مراقبة وثائق اليهود المتوجهين إلى إسرائيل؟ لقد غضت الطرف عن عدم حمل اليهود المغادرين جوازات سفر، بل كانوا يحملون فقط وثائق إدارية تحمل بعض المعلومات عنهم، يقدمونها للسلطات في الميناء قبل مغادرتهم باتجاه إسرائيل. ويبدو أيضا أن الجنرال أوفقير كان مؤيدا قويا للتعاون مع «الموساد» في ذلك الوقت، ودافع من أجل التعاون مع الصهاينة، لقد كان أوفقير ضابطا في الجيش الفرنسي، واكتسب تماما وجهة النظر الغربية وتأثر بذلك إلى حد كبير، لذلك كانت لديه بالتأكيد عقدة الانبهار من «عبقرية» الجيش الصهيوني، ففي ذلك الوقت كان جمال عبد الناصر العدو اللدود للحسن الثاني وللمملكة، وكان زعماء اليهود نقطة ضعف الجنرال أوفقير الذي كان يرى فيهم تفوقهم. – قلت في الحلقة السابقة إنكم في الحركة الصهيونية كنتم تطبعون منشورا يطبع مرة كل شهر وتوزعونه بشكل سري في كل المدن، ما هي محتويات هذه «المجلة» وبأي لغة كانت تصدر؟ كانت مجلة تقليدية الصنع، فيمكنك أن تتخيل الآلات الكاتبة في ذلك الوقت، وكنا نكتب مقالات تلك المجلة باللغة الفرنسية، باستثناء عملاء «الموساد» الذين كانوا يتكلفون بالحركات الصهيونية، والذين كانوا يتحدثون باللغة الفرنسية بشكل صحيح، لم يكن أي شاب يهودي يستطيع قراءة اللغة العبرية. كان مستوانا متوسطا، وشكلت المجلة فرصة لنا نحن الطلاب الشباب في مستوى الثانوي لتعلم الكتابة، ودفعتنا للانخراط وتشكيل شبكة تضامن بين أعضاء الحركات من مختلف المدن المغربية. وكانت القصص والشهادات التي تتضمنها المجلة تسير في نفس اتجاه الحركات الصهيونية وما يروج له «الموساد»، أي الحقيقة التاريخية التي تمليها الإيديولوجية الصهيونية وضرورة بذل كل التضحيات من أجل تحقيق وتقوية المثل الأعلى.