كان جاكوب كوهين، وهو مراهق يهودي في ملاح مكناس الجديد، يلتهم الراويات البوليسية المليئة بقصص الجواسيس، ويتخيل نفسه بطلا من أبطالها، ويحلم أن تمتد إليه أيادي عائلة فرنسية ثرية تتبناه وتبعده عن «تسلط» والده الديني، وتخرجه من بؤس الملاح إلى ترف «المستعمرين».. حيث المسابح، ملاعب التنس وقاعات السينما، لكن أيادي «الموساد» كانت أسرع، لتستقطبه للعمل لصالح منظمة صهيونية سرية لإقناع الشباب اليهود المغاربة القادرين على حمل السلاح بالقتال في جيش «إسرائيل». على كرسي اعتراف «المساء»، يحكي جاكوب كوهين كيف كان عملاء الموساد يتنقلون في المغرب بحرية وكأنهم في «إسرائيل»، يكترون المنازل ويحولونها إلى مقرات لاجتماعاتهم دون أن يثير ذلك انتباه السلطات، وكيف كان الجنرال أوفقير يتخذ منهم رفاقه المفضلين في لعب «الورق»، وكيف أصبح الموساد ذات يوم وكأنه فاعل في المشهد السياسي المغربي بعد الاستقلال. وعلى كرسي الاعتراف أيضا، يروي جاكوب كوهين كيف وجد اليهود المغاربة أنفسهم بين مطرقة الموساد، الذي لجأ لكل الوسائل من أجل ترحيلهم إلى «إسرائيل»، وسندان حزب الاستقلال الذي حاربهم ودعا إلى مقاطعة تجارهم، ونخبة أهل فاس التي رأت في رحيلهم خلاصا لها، كما يحكي كيف تحول بعد زيارته لإسرائيل، من صهيوني إلى أكبر مناهض للصهيونية وإسرائيل، وكتب عددا من الراويات التي تفضح العالم الخفي لمنظمة استطاعت أن تخترق عالم السينما والموسيقى والإعلام والأعمال. – قلت في الحلقة السابقة إن رجال «موساد» أطلقوا برنامجا على أثير الإذاعة بالدارجة المغربية لإقناع يهود بالرحيل إلى إسرائيل، ما الذي قاموا به أيضا في الملاح لإقناع شباب اليهود بذلك؟ لقد لجأ رجال الموساد إلى إنشاء أربع حركات شباب صهيونية منذ سنة 1956، قسمت الحي اليهودي بالملاح وبدأت تقوم بالدعاية من أجل تهجير اليهود الذين وعدتهم بالعمل. – هل كانت هذه الحركات تعمل بشكل علني؟ كانت هذه الحركات غير شرعية وبدأت العمل بشكل سري في المناطق التي يوجد بها اليهود، بما فيها الملاح الجديد في مدينة مكناس، عملت أنا أيضا في إحدى هذه الحركات، ودام انضمامي إلى الحركة مدة أربع سنوات، وكان المشرفون على هذه الحركات يستعملون جميع الطرق من أجل دفع الشباب اليهودي في الملاح إلى مغادرة المغرب والرحيل إلى إسرائيل. – هل اقتصر الأمر على الشباب البالغ ؟ كانوا يستهدفون كل الأجيال، فقد شهدت شخصيا رحيل أحد الشباب اليهود إلى إسرائيل، لقد كان هذا الشاب يبلغ من العمر 16 سنة، وغادر المغرب على يد رجال الموساد دون إخبار عائلته، وقد انتهى المطاف بالعائلة فيما بعد إلى الرحيل أيضا إلى إسرائيل ومغادرة المغرب. – هل كان هناك فرع لإحدى هذه الحركات في الملاح الجديد في مكناس؟ نعم، كان هناك فرع لإحدى هذه الحركات في مكناس يدعى «درور» في الملاح، وكانت هذه الحركة ذات توجه ماركسي صهيوني، لم أكن أعلم حينها توجه هذه الحركة، وأيضا يوم قررت الانضمام إليها، كان يمكن أن يتم الاتصال بي من طرف أي حركة أخرى دون أن أعرف توجهها، سواء كان توجها دينيا أو توجها يمينيا متطرف – كيف جاء انضمامك إليها ومن أقنعك بذلك؟ في أحد الأيام تقدم إلي أحد جيراننا في الملاح وقال لي: «هل تريد أن تنضم إلى حركة صهيونية سرية؟»، في الحقيقة إن وصف «سرية» هو ما أثارني يومها في الحركة، ففي تلك الفترة لم أكن أقرأ إلا الروايات البوليسية، أي الروايات التي تدور أحداثها حول الجواسيس وعالم التجسس، لذلك أغرتني الفكرة. لذلك عندما سألني جارنا في الملاح إن كنت أريد الانضمام إلى تلك الحركة، وافقت على ذلك، فقد اعتقدت حينها أنني سوف أعيش مغامرة غير عادية، وهكذا كان، فبعد أن أبديت موافقتي، جاء اليوم الموعود لانضمامي، وتم نقلي إلى شقة كانت متواجدة في المدينةالجديدة، أذكر هنا أني عندما نقلت إلى الشقة التقيت عملاء سريين إسرائيليين استقروا في المغرب ودخلوا إليه وهم يحملون جوازات سفر بلجيكية، كما أنهم، ولتمويه السلطات وتجنب أي شبهة، استأجروا شققا بهويات مزيفة وأسماء وهمية. – ما الذي حدث بعد ذلك؟ عصبوا عيني، وجعلوني أقسم يمين الولاء على العلم الإسرائيلي، لقد كانت لحظات مؤثرة جدا، بعد ذلك، أصبحنا نلتقي بشكل دوري ومستمر، كنا نلتقي بوتيرة عادة ما تكون مرتين أو ثلاث مرات في الشهر، وكانوا يرسلون لنا أحد مبعوثيهم يسمي نفسه «ماريو»، يشرف على هذه الاجتماعات. – كيف كانت تمر اجتماعاتكم وحول ماذا كانت تدور ؟ عندما نجتمع، كان ماريو يقوم بإعطائنا دروسا عن الصهيونية ويشرح لنا التصور القائم على «الصهيونية الماركسية»، وهي الرؤية التي كانت الحركة تتبناها آنذاك، إن جوهر ما كان يلقن لنا يدور حول الشعب اليهودي، والفكرة أن الشعب اليهودي يجب أن يجدد تواجده في أرض فلسطين من خلال اعتماد الكيبوتسات الاشتراكية. الكيوبتس مستوطنة زراعية وعسكرية تقتصر على المجتمع الصهيوني، وهو تجمع سكني تعاوني يضم جماعة من المزارعين أو العمال اليهود الذين يعيشون ويعملون سويا، ويبلغ عددهم ما بين 40 و1500 عضو، ويُعدُّ الكيبوتس من أهم المؤسسات التي استندت إليها الحركة الصهيونية في فلسطين قبل سنة 1948 أو إسرائيل (بعد تأسيسها)، والتي أثرت على الحياة السياسية والاجتماعية في إسرائيل حتى بداية الثمانينيات.