محكمة الاستئناف بالرباط تفتتح السنة القضائية بتثمين "تصفية الملفات المزمنة"    فريق "الباطرونا" بمجلس المستشارين يرفض "ابتزاز أرباب الأعمال" متحدثا عن "إفلاس مقاولات بسبب الإضراب"    المغرب وموريتانيا يوقعان على مذكرة تفاهم في قطاعي الكهرباء والطاقات المتجددة    الحكومة تكشف حصيلة "مخالفات السوق" وتطمئن المغاربة بشأن التموين في رمضان    البطولة: النادي المكناسي ينجو من الهزيمة أمام الجيش الملكي بتعادل مثير في رمق المباراة الأخير    لوس أنجليس.. حرائق جديدة تجبر على إجلاء عشرات الآلاف من الأشخاص    بايتاس : الشائعات حول التلقيح تزيد من تفشي داء الحصبة    أمن فاس يُطيح بمحامي مزور    إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب.. وزارة الصحة تواصل تنفيذ التزاماتها بخصوص تثمين وتحفيز الموارد البشرية    مجلس النواب يعقد جلسته العمومية    فيلم "إميليا بيريز" يتصدر السباق نحو الأوسكار ب13 ترشيحا    بايتاس ينفي تأثر "الانسجام الحكومي" ب"تراشقات" قيادات أحزاب التحالف ويرفض فرض الوصاية على الفضاء السياسي    الجزائر تسلم 36 مغربيا عبر معبر "زوج بغال" بينهم شباب من الناظور    سبع سنوات سجنا لطالب جامعي حرض على "ذبح" أحمد عصيد    مجلس الحكومة يصادق على تعيين عميد جديد لكلية العلوم بتطوان    المغرب يستعد لاستضافة قرعة كأس أمم إفريقيا 2025 وسط أجواء احتفالية    المغرب يتألق في اليونسكو خلال مشاركته باليوم العالمي للثقافة الإفريقية    الجديدة…زوج يق.تل زوجته بعد رفضها الموافقة على التعدّد    هناء الإدريسي تطرح "مكملة بالنية" من ألحان رضوان الديري -فيديو-    مصرع طفل مغربي في هجوم نفذه أفغاني بألمانيا    الدوحة..انطلاق النسخة الرابعة لمهرجان (كتارا) لآلة العود بمشاركة مغربية    لحجمري: عطاء الراحل عباس الجراري واضح في العلم والتأصيل الثقافي    تفشي فيروس الحصبة يطلق مطالبة بإعلان "الطوارئ الصحية" في المغرب    هل فبركت المخابرات الجزائرية عملية اختطاف السائح الإسباني؟    أغلبها بالشمال.. السلطات تنشر حصيلة إحباط عمليات الهجرة نحو أوروبا    حموشي يؤشر على تعيين مسؤولين جدد بشفشاون    مانشستر سيتي يتعاقد مع المصري عمر مرموش حتى 2029    مدارس طنجة تتعافى من بوحمرون وسط دعوات بالإقبال على التلقيح    المغرب يلغي الساعة الإضافية في هذا التاريخ    برقاد: آفاق "مونديال 2030" واعدة    المغرب الفاسي يعين أكرم الروماني مدرباً للفريق خلفا للإيطالي أرينا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    حادث سير يخلف 3 قتلى في تنغير    تعرف على فيروس داء الحصبة "بوحمرون" الذي ينتشر في المغرب    ريال مدريد يجني 1,5 ملايير يورو    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية أجنبية    دوري لبنان لكرة القدم يحاول التخلص من مخلفات الحرب    أخطار صحية بالجملة تتربص بالمشتغلين في الفترة الليلية    إوجين يُونيسكُو ومسرح اللاّمَعقُول هل كان كاتباً عبثيّاً حقّاً ؟    مشروع الميناء الجاف "Agadir Atlantic Hub" بجماعة الدراركة يعزز التنمية الاقتصادية في جهة سوس ماسة    بوروسيا دورتموند يتخلى عن خدمات مدربه نوري شاهين    الدار البيضاء ضمن أكثر المدن أمانا في إفريقيا لعام 2025    إحالة قضية الرئيس يول إلى النيابة العامة بكوريا الجنوبية    هذا ما تتميز به غرينلاند التي يرغب ترامب في شرائها    مؤسسة بلجيكية تطالب السلطات الإسبانية باعتقال ضابط إسرائيلي متهم بارتكاب جرائم حرب    احتجاجات تحجب التواصل الاجتماعي في جنوب السودان    إسرائيل تقتل فلسطينيين غرب جنين    باريس سان جيرمان ينعش آماله في أبطال أوروبا بعد ريمونتدا مثيرة في شباك مانشستر سيتي    الأشعري يدعو إلى "المصالحة اللغوية" عند التنصيب عضواً بالأكاديمية    منظمة التجارة العالمية تسلط الضوء على تطور صناعة الطيران في المغرب    حادثة مروعة بمسنانة: مصرع شاب وإيقاف سائق سيارة حاول الفرار    طنجة المتوسط يعزز ريادته في البحر الأبيض المتوسط ويتخطى حاجز 10 ملايين حاوية خلال سنة 2024    نحن وترامب: (2) تبادل التاريخ ووثائق اعتماد …المستقبل    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث في تاريخ شمال المغرب
نشر في المساء يوم 14 - 01 - 2016

نعود مرة أخرى للتأكيد على مجمل ما سبق أن نشرناه في السنوات القليلة الماضية حول حصيلة إصدارات البحث التاريخي المتخصص في ماضي منطقة الشمال. وهي الخلاصات التي ظلت تحظى براهنيتها مادام الحال لازال على ما هو عليه ومادامت السمات العامة تحتفظ لنفسها بعناصر البقاء والثبات. فرغم أن منطقة الشمال ظلت محورا رئيسيا للكثير من الوقائع الحاسمة في مسارات تشكل الدولة والمجتمع المغربيين، فإن ذلك لم يشفع لها لكي تقنع صانعي سياسة الراهن بإضفاء طابع مؤسساتي على جهود كتابة تاريخ المنطقة، تجميعا لمواده الوثائقية الغميسة، وتنظيما لأعماله الأركيولوجية الميدانية، وتصنيفا لمظانه البيبليوغرافية المصدرية ولإنتاجاته الراهنة المنجزة داخل المغرب وخارجه، وتوظيفا لتراثه الرمزي بمختلف تعبيراته السلوكية والذهنية، واستلهاما لنتائج التطبيقات العلمية الإجرائية التي راكمها تطور مناهج البحث التاريخي المعاصر، سواء على المستوى الوطني أم على المستوى الدولي. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لجهود المؤسسات الرسمية المختصة، أو التي من المفروض أن تكون كذلك، فإن مجال تلقي المعرفة التاريخية العلمية عرف طفرة كبرى بفضل مجهودات، فردية أو جماعية، موزعة هنا وهناك، استطاعت أن تبلور اهتمامات علمية أصيلة في أعمال مونوغرافية أو قطاعية، عرفت طريقها إلى النور، إما في شكل أعمال جامعية أو منتديات مدنية أو ندوات إشعاعية أو إطارات تواصلية.
وقبل تقديم جردنا للحصيلة الكمية المنجزة في هذا الإطار، نود التأكيد على جملة من الملاحظات المنهجية في عملية التجميع. فالأمر لا يتعلق بتقييم رصيد المنجز، على مستوى قيمه العلمية المعرفية، بقدر ما أنه تجميع كمي يستهدف تقريب المهتمين من عطاء حقل تاريخ شمال المغرب، وفق نظرة راصدة لمجال عطاء الجامعة والباحثين المتخصصين ومجموع المهتمين، من إطارات مدنية أو نخب مهتمة ممن لا تنتمي بالضرورة إلى مجال الكتابة التاريخية المتخصصة، بمعناها الحصري الضيق. فالأولوية بالدرجة الأولى ستكون للتعريف بما تحقق فعليا، وترك الحكم الفاحص على قيمه المعرفية والمنهجية للدراسات التشريحية ذات الصلة. وفي هذا المسعى، اكتفينا بالتعريف – فقط – بالأعمال التي ارتكزت على مكوني منطقة الشمال الجغرافيين والتاريخيين، وأقصد منطقة جبالة ومنطقة الريف، بمكوناتهما التاريخية والحضارية المتميزة، وفي أصقاعهما الجغرافية المترامية. ومعلوم أن الكثير من القضايا المشتركة بين التطورات التاريخية للمنطقتين المذكورتين وبين مجموع التطورات التي عرفتها عموم البلاد، تظل عنصرا مركزيا في البحث وفي التنقيب. فقد صدرت عدة أعمال اهتمت بقضايا المشترك العام، حيث كان لمنطقة الشمال حضور لافت في حلقات ممتدة من التاريخ العام لبلاد المغرب، في مختلف عقودها المتواترة وتطوراتها المتعاقبة. لذلك، فإننا لن نعدم الوقوف عند تفاصيل دالة حول تطور أوضاع منطقة الشمال، قديما وحديثا وراهنا، وحول الطرق الجديدة في التعاطي مع قضايا مركزية في درس التاريخ، مثل قضايا التحقيب، والاستنطاق الوثائقي، والرواية الشفوية، وتاريخ الهامش، وإشكالية التعامل مع طابوهات مغرب ما بعد الاستقلال السياسي، وقضايا الهوية، وشرعية السلط المتدافعة داخل الدولة والمجتمع…ولعل من الأمور الدالة بهذا الخصوص، نزوع إطارات العمل الجمعوي نحو مراكمة تجربة لا بأس بها في تدعيم الاهتمامات العلمية للبحث في ماضي شمال المغرب، إذ أثمر عن سلسلة من الأعمال التي شكلت مصدرا للتأمل وعنصر الارتكاز بالنسبة للعديد من الدراسات الأكاديمية الجامعية المتخصصة. وأخص بالذكر، في هذا الباب، أعمال جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بمدينة القصر الكبير التي أصبحت نموذجا متقدما لبلورة أشكال تطويع الاهتمامات الجمعوية مع ضرورات التوظيف العلمي لمكونات الذاكرة الجماعية والمشتركة. ومعلوم أنه إذا كنا قد تغافلنا عن ذكر بعض العناوين والإصدارات والأعمال، فإن ذلك لا يرتبط – بأي حال من الأحوال – بأي نية مبيتة للإقصاء أو للتغييب. فالأمر ناتج – أساسا – عن محدودية اطلاعنا وعن عجزنا عن تحقيق – فرديا – عمل شامل، بتتبع كل التفاصيل وبرصد كل ما يستجد في الموضوع من أعمال ومنجزات قد تنفلت من بين أيدينا.
فعلى مستوى الأعمال القطاعية والدراسات المونوغرافية، يبدو أن المجال لم يعرف تراكما فعليا يمكن أن يؤشر على أي تطور نوعي يسمح بالحديث عن تحقيق دراسات قطاعية تعيد الاعتبار لوظيفة درس التاريخ بمنطقة الشمال. فعدد العناوين «الجديدة» ظل محدودا إلى حد كبير، وتفاوتت قيمه العلمية باختلاف مواقع أصحابه وسقف اهتماماتهم المعروفة. على رأس هذه العناوين، يمكن أن نذكر عبد الصمد مجوقي، «المقاومة الريفية من خلال الشعر الأمازيغي الريفي – دهر ؤبران نموذجا»، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الحسين المساوي، «من أمثالنا الشعبية بالريف» 150 مثلا شعبيا أمازيغيا مترجما إلى العربية، «ذاكرة التكامل» أعمال مهداة للأستاذين محمد الأمين البزاز وعبد العزيز التمسماني خلوق وتنسيق محمد الكتاني، محمد عمراني «الشرف والمجتمع والسلطة السياسية بالشمال الغربي للمغرب بين النصف الثاني من القرن 8 – 13 ه/ ونهاية 15 – 18 م»، محمد بنخليفة «المجتمع القصري في المنتصف الأول للقرن العشرين – أحداث وعادات»، هدى المجاطي «من أعلام الكتابة والصحافة بشمال المغرب»، محمد الأمين الزبير «مسرح إسبانيول: ذاكرة تطوان الفنية (1923 – 2013)». محمد أخريف ومحمد العربي العسري «القصر الكبير: صور تحكي»، رشيد العفاقي «تاريخ المدرسة الجديدة بمدينة سبتة»، رشيد العفاقي «أوراق من تاريخ طنجة»، عمر أشهبار «المسار الاستعماري لجزيرتي بادس والنكور خلال العصر الحديث (1508 – 1822 م)»، أحمد الطاهري «التجارة والمبادلات بالأندلس – ميلاد الرأسمالية بالبلاد المغربية»، مصطفى المرون «التاريخ السري للحرب الكيماوية ضد منطقة الريف وجبالة (1921 – 1927)».
وعلى مستوى أعمال الترجمة، فالفقر كان كبيرا، حيث لم نقف إلا على عملين اثنين لحنان المدراعي: «صورة جبالة في الوعي الكولونيالي الفرنسي: نصوص مختارة من الوثائق المغربية» لإدوارد ميشو بيلير، وصديق عبد الكريم «الحسيمة في ذاكرتي» لبلاثيدو روبيو وسانتياغو لاكايي ألفارو. وبخصوص مذكرات الأعلام وسيرهم الخاصة، لازالت الإصدارات المرتبطة بهذا المجال محدودة إلى حد كبير، ومن أبرز ما صدر بهذا الخصوص في السنة الماضية، نذكر كتاب «عبد القادر الخطيب» لمؤلفه أحمد أخروف، والجزء الثالث من كتاب «أقلام وأعلام من القصر الكبير» لمحمد العربي العسري. وبعد، فلا شك أن الحصيلة للسنة الماضية تظل بعيدة عن الاستجابة لنهم المهتمين، ولا شك أن الأجيال الراهنة من الباحثين والمؤرخين لازالت تعاني من مشاكل الإعاقة التي تحد من ضمان انسياب نهر العطاء والإنتاج. بمعنى أن الحصيلة تظل بعيدة عن تطوير الرصيد الثري الذي راكمه الرواد المؤسسون أمثال الفقيه محمد داود والعلامة سيدي عبد الله كنون والفقيه أحمد الرهوني، ثم جيل الامتداد الذي جسدته أسماء وازنة في مجال الكتابة التاريخية الوطنية المعاصرة، أمثال محمد بن عزوز حكيم وعبد المجيد بن جلون وعبد العزيز خلوق التمسماني ومحمد الأمين البزاز وامحمد بنعبود ومحمد الشريف… ألا يؤشر حجم التراجع الكبير الذي يعرفه مجال البحث التاريخي المشتغل على تلاوين ماضي منطقة الشمال على استفحال حالة التردي الفكري والحضاري الذي تعرفه المنطقة؟ سؤال مدخلي لفهم مجمل العوائق الفكرية لجهود الارتقاء بالوعي الجماعي لمكونات الهوية الثقافية لمنطقة الشمال، بالأمس واليوم.
المسرح المغربي.. إشراقات وكبوات
من جديد، يطفو على السطح خلال السنة الماضية سؤال الكم والكيف في المسرح المغربي، بعد الوفرة العددية للعروض المسرحية التي تقابلها ندرة في الجودة، وهو ما يتأكد معه أن مسرحنا يقوم على القطيعة، لا على الاستمرارية والتطوير؛ فالعديد من الأعمال التي تقدم نفسها على كونها جديدة وتجريبية، تعيد إنتاج أساليب أشبعها الهواة استعمالاً وتداولاً فنّيا، طيلة سنوات السبعينيات والثمانينيات.
وإذا كانت العديد من الجهات تتنافس على تنظيم مهرجانات مسرحية في أكثر من مدينة، بل إننا وجدنا مدينة واحدة تحتضن مهرجانيين أو ثلاثة مهرجانات في العام الواحد، فإن إشكالية المتلقي تطرح نفسها بإلحاح، بسبب اقتصار متابعة العروض في الغالب على الممارسين والمهتمين بالمسرح وشبه غياب للجمهور العام، الذي لم يستطع المعنيون لحد الآن تكريس تقاليد المشاهدة المسرحية لديه، ولاسيما أمام عدم إيلاء الجهات الرسمية (وخصوصا وزارتي الثقافة والتربية الوطنية) الاهتمام الكافي والإمكانات الضرورية لتطوير مسرح الطفل والمسرح المدرسي، وتكريسه كأحد المجالات التعبيرية التي من شأنها أن تربّي جمهور الغد جمالياً وفنياً. كما أثير سؤال تدبير القاعات المسرحية التي تتوفر عليها المراكز الثقافية المنتشرة في مختلف ربوع البلاد، ومدى قدرتها على المساهمة في إيجاد الانتعاشة المسرحية المنشودة. هذه الملاحظات لا تنفي وجود بعض الإشراقات التي وسمت العام الماضي، وفي مقدمتها تنظيم الدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي في الرباط، التي شهدت تكريم عدد كبير من المسرحيين، والاحتفال بمئوية المسرح المغربي، وتقديم أكثر من سبعين عرضا مسرحيا في العديد من أقاليم المغرب؛ وهي التظاهرة التي نظمتها الهيئة العربية للمسرح بشراكة مع وزارة الثقافة. وأكد أمين عام الهيئة العربية للمسرح، إسماعيل عبد الله، في تصريح صحفي أن ذلك الاحتفال «اندرج في إطار ردّ شيء من الجميل للمسرح المغربي الذي قدّم الشيء الكثير لنا ونقلنا إلى عوالم مختلفة تماماً…» على حد قوله، مستحضرا بهذا الخصوص تجربة الفنان الطيب الصديقي الذي «أبهر الكثيرين في بقاع عديدة بعروضه التي كانت مغايرة للسائد، حيث جاب بعروضه تلك بلدانا عدة في المشرق العربي، إنْ في إطار مهرجانات أو بناء على دعوات رسمية، فنقل إلى المشارقة تجربة اعتُبرت مدهشة لاحتوائها على الفرجة والخيال الفني الساحر.» وفي مقابل الحجم الهام الذي اتخذته تظاهرة «مئوية المسرح العربي» في مهرجان المسرح العربي بالمغرب، فإن هذه المئوية ظهرت بمظهر مخجل في أيام قرطاج المسرحية بتونس، إذ اقتصر حضور الفعالية التي أقيمت بالمناسبة على الوفد المغربي فحسب، مثلما تناقلت ذلك وسائل الإعلام والمنتديات الاجتماعية الإلكترونية. وتساءل الكثيرون عن مكمن الخلل في هذه الصورة السلبية، أيرجع إلى الجهات الرسمية بالمغرب؟ أم إلى الجهة التونسية المنظمة للأيام المسرحية؟ أم إلى المسرحيين المغاربة أنفسهم ممن دُعوا إلى تلك التظاهرة؟. من جانب آخر، فوجئ المهتمون خلال السنة المنصرمة بقيام وزارة الثقافة بنقل المهرجان الوطني للمسرح من مدينة مكناس التي كان يقام بها سنويا، إلى مدينة تطوان التي احتضنت الدورة السابعة عشرة لهذه التظاهرة المسرحية. وقد اعترت هذه الدورة عدة أخطاء تنظيمية جعلها تفقد ذلك البريق الذي رافقها منذ الدورة الأولى. وكانت مفاجأة لجنة تحكيم الدورة السابعة عشرة متمثلة في منح معظم الجوائز لمسرحية «نايضة» لفرقة «ستيلكوم»، (الجائزة الكبرى وجائزة الإخراج وجائزة التأليف وجائزة أحسن تشخيص إناث مناصفة وجائزة أحسن تشخيص مناصفة ). وبالنسبة لمخرج مسرحية «نايضة»، أمين ناسور، فهذا العمل «ليس معزولا وإنما يشكل امتدادا للحساسيات المسرحية المغربية الشابة التي سعت منذ عقد من الزمن إلى خلق وإبداع أساليب فنية جديدة لتطوير المسرح المغربي، وجعله ضمن مصافّ المسارح العالمية» كما قال في تصريح صحفي، مشيرا إلى أن «تميز العمل يرجع باعتقاده أولاً لروح الفريق والتكامل ما بين مكوناته إنسانيا ومهنيا، وثانياً للأساليب الفنية الجديدة والمجازفة أحيانا في الاختيارات الجمالية للعرض وكذا التقنية.» وحرصت فرقة «ستيلكوم» على إهداء هذا العمل إلى روح الممثلة لبنى فاسيكي التي رحلت قبل أن تشارك في تقديم العرض بمهرجان المسرح في تطوان، فكان لذلك وقع الصدمة على كافة أعضاء الفرقة وعلى زملائها وزميلاتها من أهل المسرح. على مستوى آخر، أثارت المشاركة المغربية في بعض المهرجانات المسرحية العربية عدة علامات استفهام، من قبيل : هل هناك مقاييس موضوعية حقا في اختيار الأعمال المسرحية التي تمثل المغرب في تلك المهرجانات؟ أم ثمة اعتبارات ذاتية ما في العملية؟ وهل تلك الأعمال هي أروع ما أبدع المخيال المسرحي حاليا؟ هل تشرف مسرحنا فعلا بجانب تجارب مسرحية أخرى؟ وهل يتوفر المحكمون على المصداقية والموضوعية والنزاهة المطلوبة؟ والواقع أن هذه الأسئلة تحمل في طياتها عناصر أجوبة، يعكسها موقع تلك الأعمال المشاركة ضمن باقي العروض التي تقدم في المهرجانات المسرحية العربية.
وخارج السجال المثار على هامش بعض المهرجانات المسرحية، يظل «المركز الدولي لدراسات الفرجة» بقيادة الباحث الأكاديمي الدكتور خالد أمين والطاقم المعضد له، علامة مشرقة في المسار المسرحي بالمغرب، بالنظر لما يقوم به من نشاطات مميزة، على مستوى الفكري والنقدي، المتمثل في الندوات والموائد المستديرة والإصدارات المسرحية وإصدار مجلة «دراسات الفرجة»، التي تعدّ نافذة مهمة للمسكنونين بعشق أب الفنون.
الصرخة في ديوان «عاش مع هبّاش» لعبد اللطيف البطل
… من قلب أسفل الأسفل بكل شظف العيش ومرارته، من المهمل والمتلاشي، من الحوشي والمسكوت عنه، من سؤال الهامش وجواب المهمّش، بكل الصمت المطبق الذي يغلّف حرقة الصيحة، يصيح الزجّال عبد اللطيف البطل «يا زجّال» كأداة نداء لبعيد مقصي يخيّم عليه ما يضبب الرؤية ويحجبها. نداء تخترق ذبذباته ستار الظلمة لتكشف المحجوب: يقول الزجّال : … يزول الليل يا بابا / اتبان الصورة/ رفعات الحجاب/… بذا تنجلي صورة الأسفل مفضوحة تشي بقبحه المندس بين ثنايا الواقع الأقبح، والزجال فيه يدرك إدراك العارف «ضيق العبارة» حين يقول: ضاقت الحروف/ فكلام المصوابة.. وهو نفسه ما يقرّه قوله المتكرر داخل تنويعات متعددة: صرخة وابريح/ والصمت توام.. ولأن البطل الضحية يدرك قبلا أن صوته نشاز في سمفونية التصفيق والتطبيل المجّانيين، يدرك أيضا عزلته ووحدته فلا يتشبث إلا بحمقه المشروع، يقول: أنا مجدوب/ والحمق اسبول.. بكل إصرار المبدع فيه وقد حدّد وظيفته في تسليط الضوء على مكمن المأساة المعيشية لأهل الأسفل، حيث الأشياء تنوب عن أصحابها وتتكلم بلسانهم، تختزل بؤسهم وبؤس الواقع من حولهم. تنطق الأشياء الخرساء بتاريخها الصامت وكأني بالزجّال يحتفي بصمتها فيحوله إلى صخب يتلو صداه داخل «القصيدة». من هنا هذا النفس الساخن حدّ الاشتعال بين السطور الزجلية وهي تتدحرج دائرة ملتهبة، يقول: الشعر لهيب/ وجمرو گادي. يحتمي الزجال بها من صهد أعتى: اعزاي بالكلمة والنغمة/ والتفكير.. وهي كل ما ملكت يمينه في تتبع تفاصيل الأشياء الصامتة المدوية، يدني عينه الراصدة من ثقب الجدار الليلي كي ينطّق الصامت فينا من خلال تحريك «الراگد»، يقول: ساكن فالكلب/امكمد/ ونازل فالروح.. ذاك الذي من فرط نسيانه تكلّس وترسّب يحفر أخدودا عميقا في مسارب الدواخل، يقول: ياك اللسان/ خاصم الكلام / أوگال/ بلّي السكات احسن.. وهو ما يجعل «عاش مع هبّاش» صرخة مكتومة تنطلق من داخل الزجال ولا يسمع لها إلا صدى يتوزع بين جوانب الذات المكلومة، صرخة ذاتية معنية بصرخات الواقع المر، ولعلها ميزة الكلمة الزجلية حين تجعل من ذاتية الشاعر ذاتية موضوعية لا علاقة لها إطلاقا بذاتية الشعر الفصيح المفرطة في ذاتيتها حدّ التلغيز الفاقد معناه، إذ ذاتية الزجّال ذاتية أفقية انتشارية تتساوى فيها مع كل الذوات التي تعيش معها محنتها، منها تنبثق حوارية النص الزجلي التي تنعدم معها الملكية الخاصّة كما في نصّه «گول أصاحبي»، يقول: صاحت لفلاك/ صرخة فالذات. ويقول: ادهن احماقك بلخوا/ وگول لصبر/ غير ادبر/ أيفيض لكلام بالنخوة. فبقدر ما يخاطب الآخر يخاطب ذاته في مكابدة زجلية تحطّم الجدار الرابع وتؤاخي بين الذوات. هي صرخة اختزلها قوله : «صرخة لموات»، هذا من غير أن تجعل للموت نهاية، بل أفقا لانتظارات شتى مادام المنطق الحكواتي الذي يحكم النص الزجلي لا يعترف بنهاية النصوص، بل بتلاحقها خلفا عن سلف، وهو ما منح قصائد الديوان نفسا قصصيا لا يعلّق على المتواليات الزجلية، بل يحياها في حرارتها المعيشية تجد حجتها في قصيدة «عكاز الريح» التي يدشنها قوله: «كان يا مكان» ولا يختمها قوله: « تاهت… فالظلمة «، فنقط الحذف هنا دالة على بياض موكول لحفيد النص… يقول: الروح دوات/ خبث المألوف رخيص/ بتعليمة.. هي «التعليمة» التي وجدت في القصيدة بوحها الخاص على علّته المبحوحة، تنفيسا عن الصرخة الداخلية ذات الصمت الخارجي، إذ القصيدة الزجلية لا تعرف الحوار الداخلي، ومتلقيها صريح معلوم له إتمام القصيدة، يقول : لكلام إيلا ساح/ ماتلى يتصاب/، ويقول: ابديتي القصيدة/ ما قفلت لختام / صدمة واكسيدة/ وانواح مزيزن.
هذا النحيب الأخرس الذي لا تسمع له نأمة في الخارج إنما هو تعبير الزجال عن العجز في أتون «النكسة»، يقول: صرخة فالذات/ العين تشوف/ واليد اعديمة.. حينها لم يعد للزجال، وهو يلملم أشلاءه على غرار نماذجه البشرية القاطنة دهاليز الموت، وعلى غرار من ابتلوا من سلفه بعشق الحكاية، إلا التركيز على الأشياء وهي تصون بؤسها الخاص ضمن تاريخها الحافل بالهزائم والخيبات. من هنا يحصل التركيز، لا على الكائن، بل على المكان الأشمل في «گطران بلادي» حيث جسر»عسل البلدان» هو الموت في لجة الشهد، ومنه إلى المكان الخاص في «يابيضة يادار» حيث يتحوّل المكان إلى مكان داخلي نفسي يحتضن الصرخة ويؤثث فضاءها، يقول: قزدير تايه/ ينفخ دخان/ وقزدير امصدي/ حاضي لوكار.. ومنه إلى المكان الأخص في «ساكن فصنيديقة / بابها مغلوق»، ومنه إلى «قهوة الزور» حيث «من كان ظالم ولاّ مسكين»، ومنه إلى «جاع الما» حيث الرماد يبحث سدى عن شرارة تحمل البشارة، ومنه إلى مأساة موت القلم في زمن العنكبوت، ومنه إلى «الطبگ المسوس» حيث يقول: جنينا بالحرف شلاّ مطامر/ واشوينا الحلم فوق المجامر/… وفي كل هذا وغيره يمارس الزجال إنطاق الأشياء الصامتة البئيسة وقد أتاها البؤس من بؤس شيخها ومريديه، لنصل إلى حيث بلغ التشخيص الزجلي قمته في قصيدة الديوان «عاش مع هبّاش» لتعيدنا، في سياق زجلي مغاير، إلى حكاية عبد الوهاب البياتي «حذاء الجندي القديم» والأيدي تتداولها لتمنحها حياة جديدة ذات شمس وغبار بين الحمر الهزيلة. حكاية حذاء البطل الناجي من حروب لا تعنيه، ولكن يعنيه تآكله وموته البطيء، وهو يتجدد في موته بين «الشاوش» و»الهبّاش»، يتجدد حتى في انحداره من الأسفل إلى أسفله، يتناوبه أهل الأسفل ليعيش بينهم معززا في بؤسه، وما بين الحياة والممات يختزل الحذاء الملعون صرخة الأسفل المكتومة وهي تدوّن أسطرا زجلية قصيرة جدا، مخنوقة تتدحرج حرقة داخل القصيدة، ثم تنفجر ضغطا في نهايتها لتتشتت شظايا تبحث بلهف عمن يكمل الحكاية… ولتخبر القارئ/ السامع أن أسفل القصيدة أعمق مما نتصور، وأن الصرخة المختنقة حين لا تجد مخرجا فوقيا تنحدر دويا يأكل الذات باستمرار، ويعبّر في الآن نفسه عن قسوة الخارج… ليستمر»النبش» و»الهبش» في انتظار خروج «الحنش»، ذاك الذي لم تنفع فيه أنغام مزامير حلقة الثعابين، يقول البطل:…شلاّ نوطات / سايرين يعومو/ ولحنش املبّد/ غاطس فسمومو…
«من مظاهر تراث اليهود المغاربة في الحضارة المغربية»
يشكل كتاب «من مظاهر تراث اليهود المغاربة في الحضارة المغربية» للدكتور محمد الحداوي إضافة غير مسبوقة في التوثيق والتأريخ للإنتاج الأدبي والفني للمغاربة اليهود. وإذا كانت العديد من الكتابات المغربية وغير المغربية، بما فيها الحوليات الفرنسية الأولى، قد تطرقت للعديد من جوانب الوجود الثقافي للمغاربة اليهود، فإن كتاب الحداوي الصادر في متم سنة 2015، بدعم من مؤسسة التراث الثقافي اليهودي المغربي، قد لامس جانبا ظل مقصيا من الدراسة والتوثيق، وهو الإنتاج الموسيقي الغنائي ليهود المغرب.
يمهد الدكتور الحداوي لمظاهر تراث اليهود المغاربة في الحضارة المغربية بالتطرق إلى الوجود اليهودي في الجزيرة العربية، والأدب العربي اليهودي، حيث يُعرّف بشعراء العربية من اليهود في الجاهلية والإسلام وفي مرحلة الوجود الإسلامي- اليهودي في الأندلس. كما يُعرج على هجرة اليهود الأندلسيين نحو المغرب، والتكافل اليهودي الإسلامي. الكتاب أيضا يتطرق إلى العطاءات الفكرية لليهود في عهد الدولة المرابطية والمرينية والسعدية، وصولا إلى الدولة العلوية، دون أن يفوته الحديث عن المآسي التي تعرض لها اليهود في عهد الدولة الموحدية. في هذا الكتاب يتناول الدكتور الحداوي، بالدراسة والتمحيص، العديد من مظاهر التراث اليهودي المغربي، من أمثال وأزياء وطبخ، لكنه يركز بشكل مستفيض على الموسيقى اليهودية المغربية، حيث أفرد جزءا مهما من كتابه للحديث عن الموسيقى الأندلسية والغرناطية، وأعلام الموسيقى الأندلسية من اليهود المغاربيين، وأشهر رواد الأغنية اليهودية المغاربية المعاصرين.
الكتاب المكون من 636 صفحة من الحجم الكبير، يعرض العديد من القصائد النادرة، التي تغنى بها يهود المغرب في مواضيع متنوعة، بالعَربية والعِبرية والفرنسية، وأسست لوجود ثقافي أخذ طريقه بسهولة نحو العالمية، استنادا إلى المشترك المتوسطي بين المغرب وباقي دول جنوب البحر الأبيض المتوسط وشماله، مع ما أحدثه ذلك الجوار من أشكال المثاقفة والتبادل الحضاري، وخصوصا في جانبه الموسيقي؛ حيث ما تزال «ميازين الآلة»، و»صيحات الفلامنكو»، و»نوبات الغرناطي»، و»موشحات المألوف»، و»مواويل الشكوري»، و»قصايد الملحون»، و»عيّوع الغيطة» في المغرب وإسبانيا والبرتغال… شاهدة على ذلك الجوار الإستيتيقي العابر للجغرافيات.
ولعل قيمة كتاب «من مظاهر تراث اليهود المغاربة في الحضارة المغربية» تكمن بالأساس في عرضه لجوانب من الثقافة الشعبية، المتمثلة في الموسيقى والغناء، اللذين ظلا في منأى عن تناول الكتابات «العالمة» التي تطرقت للوجود التاريخي أو الديني لليهود في أرض المغرب، متبرمة بتعال أو جهل، لكل الإفرازات الثقافية الشعبية من غناء ورقص وأمثال شعبية ومأكل وملبس… فعن «هذا اللون من الأدب الشعبي» تساءل الدكتور الحداوي في تصدير كتابه قائلا: «ألا يحق للمثقف أن يتعرف عليه وأن يحلل كلماته، ويستشف ما وراءه من خلفيات وظلال عن العقلية التي صاغته وأعطته طابعه الخاص»، قبل أن يضيف شارحا : «الثقافة الشعبية هي ثقافة ينتجها ويستهلكها الشعب، فمفهومها نسبي يرتبط بالزمان والمكان، وهو لا شك مصطلح يسهل الأمور، ليس كاملا ولا قارا ولانهائيا، فنحن لا نتحدث عن الثقافة العامة العالمية التي يشترك فيها أبناء البشرية ولا يختلفون نحوها في المفهوم والموضوع واللون والعطاء، وإنما نتحدث عن ثقافة لمجموعة من الناس قل عددهم أو كثر، ولكن كيفما كانت الأحوال فإن لهم آدابا يتذوقونها وزجلا يستسيغونه ونغما يطربون له وغناء يرقصون عليه، فتكون البهجة والمسرة والانبساط». المجهود العلمي الكبير الذي قام به الدكتور محمد الحداوي في جمع ومراجعة وتصنيف القصائد التي يوفرها كتابه «من مظاهر تراث اليهود المغاربة في الحضارة المغربية» تدل على ولعه بالغناء اليهودي وتتبعه لمختلف الإنتاج الموسيقي العبراني في المغرب، وليس مجرد مهمة علمية اضطلع بها مؤلف متسلح بمنهجه العلمي يقارب بواسطته مواضيع لا يربطه بها أي رابط وجداني، فلولا ولع الدكتور الحداوي ومعرفته الذوقية وتتبعه المُحايث لهذا النوع من الغناء، لما استطاع الإتيان بالعديد من عيون القصائد المغناة بالعربية والعبرية والفرنسية في مواضيع مختلفة باختلاف وثراء الشخصية الثقافية والطبيعية والتاريخية لبلاد المغرب. بل إن الدكتور الحداوي حفر بعيدا في «هجرة اليهود من الأندلس، وما كان لذلك من أثر إيجابي في إغناء الفكر والإبداع المغربيين، وقد تجلى هذا واضحا في الموسيقى والغناء المغاربي، إذ عرّف الباحث بأسماء أعلام يهودية رائدة أغنت الموسيقى الأندلسية والغرناطية ونوعت عطاءها، خصوصا في مجال القصيدة الزجلية اليهودية المغربية وفن الملحون» يكتب جاك طوليدانو، الرئيس التنفيذي لمؤسسة التراث الثقافي اليهودي المغربي ومتحف التراث اليهودي المغربي، في تقديمه للكتاب، قبل أن يضيف: «ولم يفت الكاتب أن يذكّر بكبار الموسيقيين اليهود المغاربة في القرن العشرين مثل : «جوزيف بانون» (المدعو بيشان) رئيس فرقة الطرب الأندلسي لمدينة الدار البيضاء و»الرّبي» (دافيد بوزكلو) والموسيقي الصويري الملقب ب «المعلم الكبير» الذي كان يلجأ إليه كل الموسيقيين اليهود والمسلمين من أجل ضبط وتصحيح معارفهم الموسيقية وأيضا الفنان الكبير «سامي المغربي» الذي استمر في أداء أغانيه بالدارجة المغربية وبالعبرية». لم يقتصر الدكتور الحداوي في كتابه القيم على الوثيقة المكتوبة، بل قام بمجهود جبار في جمع نوادر الأغاني المغربية اليهودية في قرصين مدمجين أرفقهما بغلافي الكتاب، لذلك فإن كتاب «من مظاهر تراث اليهود المغاربة في الحضارة المغربية» يعتبر بحق عملا علميا مفيدا للأكاديميين والقراء العاديين على حد سواء، وممتعا لكل عشاق الموسيقى المغربية اليهودية.
الثني والشعرية العربية
1 – ثمة في تاريخ البشر، منذ البدء، الكثير من النّسيان، نسيان الممكن في مقابل الكائن، نقصد ثني plie الوجود وطيّه، باعتباره عين الشيء le même، أو النُّور الذي يُنير غشاوة voilementالوجود. لقد أدّى انسحاب الثنيُ، بالفكر البشري، منذ اللّحظات الأولى للدّرس الفلسفي اليوناني، في أتون النّسيان، نسيان الوجود نعني، وفي هكذا نسيان تكمن المصالح الخاصة. تولّد عن هذا الأمر، مشروع ثقافي كوني همه الأوحد، هو تفسير وتبرير المعطى السوسيو- ثقافي القائم، بغاية إقرار الواقع وإثباته من خلل وضع الكائن في مواجهة الممكن. يُمكنك أن تلحظ باستمرار ذاك التصدي الوحشي، من قبل العسكر الذي يحرس الجدار العالي للمُعطى، المٌلبّد بالقُدسي، لكلّ نبش أو محاولة فهم وتأويل يفضح السائد، ويُعرّي الوجود. من المؤكد أن في التأويل وتوليد المعنى الكثير من الألم، ألم الانفصال عن الأصل بتعبير هيجل، ومن المؤكد، أيضا وعطفا، أنه السبيل، بل المنهج القويم لبسط الثني dipliment. بسط الثني بهذا المعنى، كما يقول هايدجر، هو انكشاف dévoilement، والانكشاف ليس سوى فعل الظهور faire-apparaître. الأصل كان، ولازال، قاسيا بسلطته، وبطهرانيته، وبأحقيته المطلقة، وكل محاولة للانفصال عنه، تُحدث جُرحا غائرا. إنّ الكثير من المحاولات في الفهم الانفصالي/المؤلم، كان مآلُها النسيان.
2- ومن نافل القول إنّ الفن والأدب، باعتبارهما تجلّ من تجلّيات إدراك فهم الوجود، أُصيبا منذ القدم بعدوى الأصل، درءا لكلّ خطر يتهدّدُ الوضع السّوسيوثقافي القائم، للتّدقيق قل، خوفا على المصالح الخاصة. وكلُّ شذوذ أو انحراف عن هكذا مسعى يكون مصيرُه النّسيان.
في الأدب العربي، وفي الشّعر تحديدا، هناك الكثير من النّسيان والتجاهل والكبت، فقط لأنّ وضع القصيدة حُدّد سلفا، ليس من شك في العصر الجاهلي، ولأنّ اللُّغة العربيّة كذلك كانت قد تهندمت، بُعيد ذلك بقليل، بلُغة الوحي. ولئن كان نسيان الثّني فعلا ممنهجا، قامت به الشّعرية المُؤسسة (بكسر السين الأولى)، باعتبارها سلطة، خضعت للمؤسّسة الثّقافية الرّسمية، التي كان لها دور رئيس في رسم خارطة طريق الشّعرية العربية، فإنّه ليس من شك كذلك أنّ هذه الرُّؤية ستُغذّي وتُقوّي أُصولية شعرية، كانت ولا تزال إلى يومنا هذا قدر الأمّة العربية والسر في هذه الفداحة غير المبررة. ممّا سلف، نمتشق استنتاجا صادما، مفاده أنّ أصل البويطيقا العربية تأسّس على التّصدّي الفادح لبسط الثّني وطمره، بمعنى آخر، إنّ حضورها ارتهن بنسيان الآخر الشّعري، الخارج عن منطق الإجماع، والمتمرد على كلّ أُصولية شعرية، جعلت من الدُّوكسا الشّعري، كميتافيزيقا، في مواجهة جمالية الخرق والمخالفة.
الذّائقة العربية لم تكن البتة في معزل عن هذا الشرط الفنّي المُستبد. فلما كانت الشعرية العربية شعرية إجماع، فإنّ جمهور الشعر ظلّ يمُجُّ كلّ ما هو شاذّ أو منحرف عن السّياق، لأنّ العقلية العربية، كانت وما تزال، كما تبين،لا تطمئنُّ سوى للإجماع، إلاّ فيما ندر.
هكذا هي عقلية القطيع، عقلية تصاب بالرُّهاب والفزع كلّما باغتها الطّارئ، لتتحصن ضده بالانكماش والتكتُّل. وحتى الفعالية النقدية التي تعتبر قراءة نوعية ونموذجية، في حوزتها القدرة على التّشوُّف إلى ما هو أبعد من الحدود التي رست عندها الشعرية العربية، ظلّت بدورها وفية لهذه القاعدة، مع بعض الاستثناءات. ولأنّ الأُصولية النقدية العربية كانت تابعة لعقلية الإجماع، فقد تمّ القبُول ببعض التجارب الشعرية المعتبرة والمائزة، في مملكة الشعر،على مضض، في حين زُجّ بأُخرى، جديرة بالرّعاية، في المهب. ألم يعتبر النُّقّاد شعر أبي تمام نوعا من الكساد الشعري؟ ألم يُتّهم أبو نواس بالشُّعوبية والتّآمر على المنظومة الخُلقية العربية؟ حدث هذا، فقط، لأنّهما خرجا عن الإجماع، وتمرّدا على النظام الشعري المعطى. إنها رُؤية شعرية نكوصية للغاية، رؤية جعلت من نظام القصيدة الجاهلية، محدّدا (بكسر الدال الأولى) أبديا للشّعرية. منذ تلك اللّحظة، تحوّل هذا النّظام إلى ما يمكن تسميته، كما سلف، بالدُّوكسا الشّعري، والذي كان العلّة في هذه الفداحة.
3- وإذن، ثمة في الشعرية العربية الكثير من الانسداد، والكثير من الأسيجة والمتاريس، نقصد المعايير. الأمر هذا جعل جمهور الشعر العربي، يصاب منذ القدم بفوبيا التغاير، فالمختلف محدث، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة. فما أحوجنا اليوم إلى تحرير حقيقي للمكبوت في شعرنا العربي، لأنّ في ذلك إظهارا للثني وبسطا له، والذي لن يتم تحريره إلا من خلل عملية الانكشاف، بما هي بسط للثني. فلا مراء في أن علة هذا النسيان عند الأصولية الشعرية، تتجلى في اختلاف المنسي ومغايرته. مضمون هذا الكلام أن الاختلاف اغترابٌ ومنفى، وأمّا التماثل والمطابقة، فهو الجدير والأحقّ لقدرته على المحاكاة. مصير الشعر الصوفي، مثلا، لم يكن ليخرج عن هذا التفكير، إن شئتم التكفير، فقط لأن الصوفي يرى في الإنسان قدرة كبيرة على الخلق والإبداع، انطلاقا من مقولة (وحدة الوجود)، وعطفا لأن النص الصوفي خلق شعرية جديدة في معزل عن الشعر الموزون يقول أدونيس. «الصديق أنت إلا أنه بالشخص غيرك»، كتب هذا أبو حيان التوحيدي منذ زمن طويل، متمردا على منطق الشبيه وإمبريالية النموذج. فالاختلاف، بهكذا معنى، هو نوع من المسافة والبعد، حيث تتحقق الصداقة كما يقول موريس بلانشو. إنها رؤية مبدعة تقوّض كل تطابق أو تشابه، منتصرة للاختلاف، ذاك الذي يؤسس للصداقة، وينبذ كل اختلاف وحشي وكل تنميط أو تحنيط.
4- النفري هو واحد من الشعراء الصوفيين الذين طالهم النسيان، ولعلّ من بين الأسباب الرّئيسة الكامنة وراء هذا التّجاهل، كون الكتابة عنده مُلغزة ومُرمزة، صعبةُ التّداول. وقد «يكون نتاج النّفري في لا تمركزه سببا في عدم انتشاره». هكذا هي كتابة الهامش، كتابة مستفزة، ومصيرها الإقصاء، علما أنّ الهامش عند النظريّات ما بعد حداثية أكثر مركزية من المركز نفسه. فالسّطح بالنّسبة لنيتشه هو الأكثر عمقا، فقط لأنّ للسّطح قاعا، فيما لا قاع للعمق. واللافت في النّص النّفري هو التّشظّي والانشطار أو ما يمكن نعته بالكتابة البرزخية، القائمة بين النٌّطق والصّمت، حيث قبر العقل، وقبور الأشياء كما يقول، إنّه نصّ يتحرّك «صامتا في نطقه، وناطقا في صمته»، الشيء الذي يجعل قارئه يقف في البين- بين entre-deux حائرا، وكأنّ الرّيح تحته. هو إذن نصٌّ شذري مصاب، إلى حدّ كبير، بالشّك والتّردُّد le doute، وكأنّ مزاجه من مزاج الرّيح، نصٌّ «كُتب بأُسلوب رُؤيوي مُعقّد يُقلق النّص الصُّوفي الذي كُتب في القرن الرابع الهجري». وسيتضح جليا، من خلال ما سيأتي، كيف أن النص النفري، نصٌ لا يُؤمن بالانتماء أو النموذج، بل يسعى أبدا إلى مغايرة أصله، يقول أدونيس: «هكذا يبدو نص النفري قطيعة كاملة مع الموروث في مختلف أشكاله وتجلياته. وبهذه القطيعة، يُجدّد الطّاقة الإبداعية العربية، ويجدد اللغة الشعرية في آن. إنه يكتب التاريخ برؤيا القلب، ونشوة اللغة» يقول أدونيس.
وليس من شك أن سبب التعقيد والغموض في الكتابة النّفرية يرجع إلى الصمت الذي يلُفُّ لُغتها، علما أن قول ما لا يُقال، يحتاج دائما وبالضرورة إلى أثر اللُغة لا اللغة، يقول قاسم محمد عباس في تقديمه لكتاب «النُّطق والصمت» للنفري: «يمكن أن نلمس ما تُضمره ثنائية التصريح والكتم في إخفاء هذا التصريح، أو تقنعه بمفهومي الرمز والصورة، تلك الإشكالية الأساسية التي يتوفر النفري على مفاصل معالجتها، وعلى آليات التعبير التي تنشدُّ إلى التجربة ولا تنفصل عنها». صفوة القول إن الكتابة عند النفري وحدة بين الشّعرية والفكر، كتابة لا تُذعن لأيّ نموذج مسبق أو معياري، كتابة تغوص في أعماق النفس، لكي تستكشف الباطن والغيب بكثير من الشّك واللايقين و»كأنه بقدر ما يعلم يقول: أعرف أني لا أعرف». حسب أدونيس. إنه يُدرك أكثر من غيره أن الكلام عن هذه المجاهل، في حاجة إلى لغة تتفلّت بجحود واثق من المشترك، ومن البرهان القضوي «اللغة هنا مغامرة لقول ما لا يُقال». لأجل ذلك عاد النفري باللغة إلى درجة الصّفر، أي إلى وضعها البدئي، وحالتها السّديمية، معلنا بذلك، عن حوار مسجور بالغموض والدّهشة بين النُّطق والصمت. إن الكتابة عند النفري كتابة قلقة ومُستفزّة باستجلائها الكامن والغامض، وهي بذينك، تستثير عند القارئ العاشق، تأمُّلات متشعّبة، حول أسئلة متجذرة في الكينونة، تلك المسكوت عنها.
منحوتة الإناء في قصر فرساي
هكذا طفرتْ الفكرة في ذهنه وبدون سابق إعداد، أو إشعار ذاتي ما، كأنها إملاء من جهة خفية لها أهدافها الغير معروفة، رغم أن الفكرة في الحقيقة عملية استرخاء لحظية لا غير. وهي التي جعلته يضع يده اليمنى في منحوتة الإناء. وهذه الأخيرة كانت بالقرب منه، والفكرة كانت مُستندة على رغبة في الاتكاء على شيء ما، فوُجدت يمناه في داخل قعرها. كما يحدث عادة بعد تعب للجسد، في وقفة ما أو بعد مسير. للمنحوتة مقبضان بحافتين دائريتين، يمينا وشمالا، على شكل رجُلين ملتصقين بها، ولهما أرجل كبش بها صوف كثيف. وقد كان واقفا حين فعل، وبعدها نظر مليا إلى واجهة قصر فرساي الممتدة يمينا ويسارا، هذه الواجهة البيضاء المشعة والمذهبة في جوانب عليا، هنا وهناك. ذهب يلمع بقوة في شمس الظهيرة. وتبدت اللحظة كأنها غوص في نفق مُستقبل. فيه غياب عن الزمن، وغروب عن المكان. لكنه وبفعل ذات الإملاء السالف الذكر، في مرحلة ثانية، وجد نفسه كمن يهرب من الشعاع القوي للواجهة وصفرة المعدن النفيس المتلألئة، واستدار إلى الخلف أي نحو المساحة الشاسعة أمام القصر الأمبراطوري الباذخ. في الأسفل البعيد حيث الحدائق الكثيرة تنشر خرائطها اللانهائية مانحة عشبها المقلم المنحوت بهندسات متتالية متنوعة ومختلفة، وورودها المتنورة بتصاميم بديعة، وسقاياتها الكثيرة الشبيهة بعيون صغيرة منبتة تنفث ماء الأبدية. كان ينظر ويملأ بصره بكل جلال البناء والمعمار، ويمناه ما تزال غائصة في منحوتة الإناء. كانت موسيقى أوبرالية تصدح في أعماق نفسه، وكان يشعر بما يشبه الارتعاش الفريد ينفخ مسام جسده. الغريب أنه لم يكن يتساءل بغباء عن كيف ولماذا، كان فقط يحس بوقت متوقف مخلد ومشهد يستعصي على الوصف، وبصره كان يسبح ساكنا يعانق القريب والنائي مما حوله دون أن يدرك نهايته، أي مرافق القصر. كان كمن أُملي عليه قدر فرضخ لمشيئته.
ولا يهم كم مر من الوقت. ونعم، هو فعل ما فعل وكأنه ينتظر أمرا، أو لنقل كما لو كان يجرب تعويذة خاصة يعرف حروفها هو دون غيره وتفرض سلوكه هذا، بطقس مماثل للبحث عن سر في بئر أو قعر. إلا أنه يفعل بصمت حكيم لا يمكن التنبه إليه، وبلا كلام أو تمتمة معينة. وليس هذا هاما في آخر المطاف، ما دام أن الذي حدث وجب أن يحدث. بعد لحظات هدوء متأمل وسكينة ضاجة بالتبصر، أحس بخمش في أصابعه المتخفية في الإناء، وشعر بدبيب يسري فيهما وفوقهما، بدأ لطيفا ومداعبا، ثم ما لبث أن صار حادا ومؤلما. فأسرع بسحب يده، وعاد إليه وعيه فجأة. أجل، فصاحبنا لم يكن في كامل شعور واع بالجمود المتأمل الذي كان غارقا فيه. فقد كان قد فقده تقريبا، ولم يكن في وارد ذهنه أنه كان يلمس حقيقة الأمور حوله مثل أي سائح يزور ميدانا أثريا شهيرا عرف صناعة تاريخ عالمي. أي وجوده في باحة أفخم قصر ملكي تاريخي في العالم. باحة مضمخة بالتراب الأبيض المنشر كغطاء في المريرات والمخابئ، وحيث في كل ما تقع عليه العين تنتصب تماثيل ومنحوتات وأدراج ومحال. كان في زمرة عديدة البشر من السائحين الخالقين لجلبة أصوات، وحركات مشي وتنقل في كل جهة وعدو وأحاديث. لكنه كان وحده بينهم. كان كمن أخذه وجد صوفي إلى رحاب قدر عظيم لا يستطيع منه فكاكا. وحين أفاق منه بسب الخمش والألم، مسد آليا يده، وألقى نظرة على مكان الوجع، فوجد حشرة جامدة وتائهة فوق جلد يمناه. وبدت ما تزال ملتصقة باليد بشدة ولا تود مغادرتها. سكتت الموسيقى، وتوقف حبل التأمل، ووصلته أنفاس من كان حوله من زوار نشيطين فرحين باللحظة، وحينها عرف أنه غاب عن نفسه وعن المكان. نسي العالم القريب الملتصق به وبحواسه. فحنى رأسه ومد يده اليسرى نحو يده اليمنى وشرع في إزالة الحشرة من على جلده. لكن توقف برهة وتأملها قليلا، في آونة خاطفة، حائرا فيما عساه يفعل بها. يرمي بها تحت الأقدام أم يطوح بها متخلصا من مرآها المزعج. في الأخير قر رأيه على إعادتها إلى قعر الإناء. ولا يعرف لماذا فكر في تصرف كهذا. احتراما للمكان، هذا الفرساي الفخم المترامي الأنحاء والممتد بالأسرار والخبايا ؟ احتراما لحال كينونة سابقة، لا تهمها الفخامة ولا السر، وكان هو سببا في اضطرابها ؟ أو فقط كي يخلخل بداهة منظر ممنوح بجمال لا يوصف كي يقصف الجلال بخمش صغير غير مبال؟ ربما هذا وذاك أو كلها مجتمعة. وبتؤدة محترمة ومتأنية وضعها في قعر الإناء دون أن ينظر إلى ما بداخله أو حتى امتلكه الفضول لمعرفة ذلك؟ وحين انتهى من أمر الحشرة، وحالما غابت عن يده وناظريه، قال وهو ينظر إلى الإناء الأثري فوق السور النصفي القائم في التراب الأبيض: آه! الحشرات لا مبالية ولا تهتم بالتاريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.