شكلت «طالبان» الحركة العسكرية الأفغانية منذ منتصف التسعينيات تهديدًا خطيرًا لحكومتها والحكومات العالمية، إذ تولت الحكم لمدة ست سنوات ثم أسقطت في غزو أمريكي لم يحقق أهدافه، اليوم وبعد 14 عاما من النزاع المسلح في أفغانستان، يتم الإجماع على أنه لا هدوء ولا تحقيق للسلام في أفغانستان دون أن يتم التفاوض مع طالبان، هذه الحركة التي تمر الآن بمنعطفات ليست سهلة بسبب وفاة زعيمها الملا عمر. محادثات السلام، أو حتى السلام ذاته، قد يكون في متناول يد أفغانستان؛ فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، مضت أفغانستان، باكستان، وحركة طالبان الأفغانية، في خطوات تقدمية غير متوقعة باتجاه الحوار والتفاوض، وفي أوائل شهر ماي، التقى أعضاء من حركة طالبان والحكومة الأفغانية في قطر، وأعربوا عن اهتمامهم الحقيقي في بدء مفاوضات رسمية، وهي خطوة مشجعة للغاية. مسار التفاوض وعراقله أرست المملكة العربية السعودية في العام 2008 قواعد المفاوضات عندما استضافت المملكة كبار الزعماء من طالبان ومسؤولين أفغان في اجتماع خاص لبحث وقف لإطلاق النار وإنهاء التمرد. وقد اتخذت الحكومة الأفغانية في السنوات الماضية خطوات لا بأس بها في إدراك الحاجة للتوصل إلى تسوية مع جنود الطالبان من خلال قانون التسوية الوطنية والعفو العام والاستقرار الوطني الأفغاني الذي جرى في يناير سنّة 2010، وأيضاً من خلال برنامج السلام وإعادة التكامل، الذي يهدف إلى دعم الأمن ومؤسسات الحكم الوطنية، وفي الوقت نفسه تمكين إعادة المتشددين السابقين إلى مجتمعاتهم. وكان الرئيس الأفغاني السابق حميد كرزاي قد انشأ «المجلس الأعلى للسلم» في العام2010 للتفاوض على السلام مع «طالبان» وغيرها من الجماعات المسلحة، إلا أنه لم يتم إحراز تقدم بهذا الشأن بسبب تباين الرؤى بين الجانبين والخلافات السياسية بين كابل وإسلام آباد آنذاك. وفي مارس عام 2012 علقت طالبان المحادثات الأولية مع الولاياتالمتحدة التي ركزت على تبادل الأسرى، حيث كانت حركة طالبان تطالب بالإفراج عن خمسة من كبار عناصرها من معتقل غوانتانامو مقابل تحرير الرقيب الأمريكي باو بيرغدال، الذي يعتقد أنه في قبضة طالبان منذ عام 2009. وفتحت طالبان مكتبا في قطر في يونيو 2013 في خطوة أولى تجاه التوصل إلى اتفاق سلام، إلا أنها أغلقته بعد ذلك بشهر عندما أثار كرزاي اعتراضه على رفع علمهم أبيض اللون في أعلى المبنى واستخدامهم لوحة معدنية مكتوب عليها إمارة أفغانستان الإسلامية وهو الاسم الذي استخدموه خلال فترة حكمهم للبلاد بين عامي 1996 2001. في المقابل بدأت فكرة مفاوضات السلام تلقى زخمًا كبيرًا في الأوساط السياسية الأمريكية، وكان المناصر الأول لهذه الفكرة داخل إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والمدافع الشرس عنها، هو ريتشارد هولبروك، الممثل الخاص لأوباما حينها في أفغانستانوباكستان، وبارنيت روبين، أحد كبار مستشاري هولبروك، وفعلًا في مايو 2010، زار كرزاي واشنطن، ورفع أوباما الحظر المقرر في عهد بوش على المفاوضات مع قيادة طالبان، ونتيجة لذلك، وفي وقت لاحق من الشهر ذاته، عقد كرزاي «لويا جيرغا»، أول مجلس المصالحة الموسع، لمناقشة إمكانية إجراء مفاوضات سلام. وتزامنت هذه التحركات في الداخل الأفغاني، مع تشجيع البيت الأبيض لعقد لقاء ما بين الأخضر الإبراهيمي، مسؤول سابق من الأممالمتحدة في كابول، وتوماس بيكرينغ، الوكيل السابق في الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، لبحث إمكانية إجراء محادثات سلام في أفغانستان، وفعلًا قاد المسؤولان مجموعة دولية مؤلفة من لفيف من الدبلوماسيين، الذين سافروا إلى أفغانستانوباكستان، واجتمعوا مع ممثلين سابقين ونشطين من حركة طالبان، وأودعوا تقريرهم لواشنطن، مفصحين فيه عن أن طالبان كانت مهتمة بإمكانية إجراء محادثات مع الولاياتالمتحدة. كرة مفاوضات السلام بدأت حينها بالتدحرج والتوسع؛ ففي نوفمبر 2010، اجتمع في ألمانيا لأول مرة، دبلوماسيون أمريكيون مع ممثلين عن حركة طالبان، وفي فبراير 2011، أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية حينها، هيلاري كلينتون، أن الولاياتالمتحدة مستعدة رسميًا لبدء مفاوضات السلام، واستتبعت ذلك بإلقاء بعض الشروط حول ضرورة شمول أي تسوية لإلقاء حركة طالبان لأسلحتها، وقبولها بالدستور الأفغاني، وقطع علاقاتها مع تنظيم القاعدة، وتبع ذلك فترة من الجمود، من بعدها تم استئناف المحادثات بين الولاياتالمتحدة وممثلي طالبان في أواخر عام 2011، واستمرت حتى الأشهر الأولى من عام 2012، ولكن عند هذه النقطة توقفت طالبان عن المحادثات، وذلك إبان طلب واشنطن بأن تبدأ طالبان بالتفاوض مع كابول. وهكذا تم تفويت الفرصة الكبيرة من خلال الفشل في بدء عملية السلام في ذروة الضغط الأمريكي، وفي خضم قيام قوات حلف شمال الأطلسي باستعادة السيطرة على مساحات كبيرة من معاقل طالبان في قندهار، وهلمند، والمحافظات المجاورة، وفي الحقيقة المسؤولية عن هذا الفشل يتقاسمها جميع الأطراف؛ فعلى الجانب الأفغاني، لم يألُ كرزاي عن بذل قصارى جهده لعرقلة العملية، كونه كان يخشى أنها ستؤدي إلى تهميشه، ومطالبة حكومته بافتتاح محادثات مباشرة مع طالبان، أما بالنسبة لطالبان فقد رفضت التفاوض مع كابول، إلا بعد إطلاق سراح عدد من قادتها السابقين المعتقلين في معتقل غوانتانامو التابع لأمريكا في كوبا، ومن جانبها، فقد تابعت الولاياتالمتحدة عرض كلينتون الأولي للتفاوض بحذر شديد، وكانت جهودها مترددة ومعاقة بالمشاحنات الجارية ما بين الأطراف الداخلية، حيث إن وزارة الدفاع لم تتفق مع وزارة الخارجية على مجموعة متنوعة من القضايا المتعلقة بالمفاوضات؛ فعلى سبيل المثال، الجنرال ديفيد بتريوس، الذي قاد بعثة حلف شمال الأطلسي الأمنية إلى أفغانستان بين عامي 2010 و2011، فضّل الامتناع عن متابعة محادثات السلام حتى تحقيق نجاحات عسكرية أكبر، كما اعترض مسؤولون آخرون في البنتاغون على اقتراح قيام الولاياتالمتحدة بالإفراج عن سجناء من غوانتانامو في مقابل الإفراج عن بيو بيرغدال، وهو رقيب بالجيش الأمريكي كانت تحتجزه حركة طالبان؛ لذا كان البيت الأبيض بطيئًا بالتوصل إلى اتفاق بشأن دفع محادثات السلام قدمًا، وهكذا انسلت الفرصة من بين أصابع الجميع. شروط طالبان لإنجاح محادثات السلام انتعشت الآمال مرة أخرى بشأن المصالحة الوطنية، بعد انطلاق «محادثات مفتوحة» بقطر في الثاني من مايو2015، شاركت فيها 45 شخصية أفغانية، من بينها ممثلون عن حركة «طالبان» وأعضاء مجلس الأمن الأفغاني، إضافة إلى ممثلي «الحزب الإسلامي»، ففي الفترة الأخيرة أخذت طالبان تجري مفاوضات على أكثر من صعيد، مفاوضات مع الحكومة الأفغانية وأخرى مع الباكستانية، وذلك بهدف الوصول إلى حل لاستقرار الوضع في أفغانستان التي تعاني منذ 14 عاما من النزاع المسلح وتشهد تصعيدا في أعمال العنف بعد رحيل القسم الأكبر من قوات الحلف الأطلسي في شتنبر الماضي. وتطرح الحركة شروطا عدة قبل الموافقة على بدء مفاوضات سلام بينها رحيل القوات الأجنبية كلها من أفغانستان. وأكدت طالبان على شروطها المسبقة لإجراء أي مفاوضات في بيان تلاه ممثلوها في الاجتماع ونشرته الحركة على موقعها الرسمي على الإنترنت. وجاء في البيان أن «أحد العوائق الخارجية الرئيسية (أمام المحادثات) هو احتلال الأميركيين لبلادنا.. واستمرار هذا الاحتلال سيعني استمرار الحرب». وأضاف: «إن أم المآسي هذه جميعها هي غزوهم الذي يجب أن ينتهي كخطوة أولى باتجاه الحوار السلمي بين الأفغان». وأبقى حلف شمال الأطلسي على قوة قوامها 12500 جندي في أفغانستان في إطار مهمة تدريب الجيش الأفغاني وتجهيزه بعد أن تم التوقيع على الاتفاق الأمني بين كابل وواشنطن من جهة، وبين كابل وحلف شمال الأطلسي من جهة أخرى، يسمع ببقاء بضعة آلاف جنود أميركيين وأطلسيين لمتابعة عملية تدريب القوات الأفغانية ومساندتها في مواجهة المخاطر في حال تعرض البلاد لهجوم طالبان. كما أكدت الحركة ضمن شروطها أنها تحتاج إلى إنشاء مكتب سياسي لإجراء أية مفاوضات سلمية، وطالبت بشطب أسماء زعمائها عن «القائمة السوداء» الأميركية، وأضافت «لإجراء المحادثات لا بد من وجود مكتب وعنوان. فالإمارة الإسلامية ليس لها عنوان لإجراء محادثات السلام». ورغم عدم التوصل لأي اتفاق مع أي من الأطراف إلا أن ذلك يرجع إلى حداثة المفاوضات أولا ثم تعليقها لإخيرا بسبب وفاة الملا عمر، ويشكك بعض المحللين في استئناف سريع للحوار على اعتبار أن وفاة الملا عمر قد تزيد من الانقسامات داخل حركة طالبان التي سيستغلها تنظيم الدولة الإسلامية، خاصة أن بعض مقاتلي طالبان انشقوا وبايعوا تنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر على مناطق واسعة من سورياوالعراق. تنظيم «داعش» يهدد تماسك حركة طالبان قبل أقل من أسبوع، كانت أفغانستان تبدو وكأنها تزحف ببطء نحو السلام. فقد كان قادة متمردي «طالبان» يتأهبون لحضور جولة ثانية من المفاوضات مع المسؤولين الأفغان، والتي حثت عليها السلطات الباكستانية وسط تحسن في العلاقات التي ظلت باردة لفترة طويلة مع كابول، ويعززها البيان الداعم الأخير من زعيم طالبان الملا محمد عمر. واليوم، فإن هذا السيناريو المفعم بالأمل قد ذهب أدراج الرياح مع الكشف عن وفاة «عمر» الذي كان بالفعل ميتاً منذ عامين. وقد تم تأجيل محادثات السلام الجديدة فجأة، فيما تعهد مسؤول «طالبان» الذي حل محل «عمر» بالإبقاء على الحرب مستمرة في محاولة يائسة لتوحيد أواصر الحركة المنقسمة. وقال «أختر محمد منصور»، في بيان أذيع على الإنترنت:»سنواصل جهادنا حتى قيام نظام إسلامي. إن العدو يحاول، بحديثه عن السلام وبهذه الدعاية، أن يضعف الجهاد. لقد حاربنا لمدة 25 عاماً ولن نخسر إنجازاتنا.» ورغم إذاعة تسجيل رسمي ل»طالبان» يظهر بعض رجال الدين وشيوخ الحركة أثناء مبايعتهم لمنصور، فإن الزعيم الجديد يواجه معارضة داخلية من أقارب «عمر» والقادة المتشددين وبعض أعضاء «طالبان» من ذوي النفوذ الذين يتشككون بشأن الاجتماع السري والمتسرع الذي عقد في مدينة كويتا الباكستانية وتم فيه اختيار «منصور». وقال محللون إن الصراع على السلطة قد زاد من الانقسامات القائمة على خياري مواصلة القتال والانضمام للمفاوضات، علاوة على الخصومات الإقليمية والقبلية التي كانت تواجه بالقمع من قبل الملا عمر. ورغم أنه من السابق لأوانه معرفة كيف ستمضي هذه الديناميكيات، فإن محللين ودبلوماسيين قالوا إن «طالبان» تواجه الآن أزمة وجودية حادة قد تؤدي إلى انقسام دائم، مع قرار بعض الفصائل التصالح مع الحكومة وانجذاب آخرين إلى أحضان تنظيم «داعش» في أفغانستان. ويقول مسؤولون أميركيون، كانوا حتى قبل أيام يحدوهم التفاؤل بأن تؤتي محادثات السلام ثمارها، إنه ليست لديهم أي فكرة عن الاتجاه الذي ستأخذه «طالبان» بعد وفاة «عمر» أو التأثير الذي سيتركه غيابه على تماسك الجماعة أو شهيتها الضعيفة لإنهاء النزاع. وفي هذا الصدد، قال «دانيال فيلدمان»، مبعوث واشنطن الخاص إلى أفغانستانوباكستان، «هذه اللحظة تعد فرصة» ل»طالبان» للاختيار بين الحرب والسلام، ونحن نأمل أن يتبنوا الخيار الثاني. وكان بعض المراقبين الأفغان أقل تفاؤلا وأكثر حدة، في إشارة إلى أن «طالبان» الآن تواجه خيارين يتعذر الدفاع عنهما: مواصلة القتال من أجل قضية فقدت مؤسسها بعد عامين من إخفاء وفاته، أو محاولة إيجاد مكان في مجتمع لا يملك سوى عددا قليلا من الوظائف للمقاتلين السابقين، وقد تغير كثيراً منذ أن حملوا السلاح وسط حرب أهلية وحشية قبل عقدين من الزمان.ويعتبر المحللون أن وفاة زعيم حركة طالبان الأفغانية الملا محمد عمر قد يدفع بعدد كبير من جهاديي المنطقة إلى أحضان تنظيم «داعش» الذي يرغب في أن يبسط على أفغانستان «خلافته» المعلنة حتى الآن على جزء من سورية والعراق.فمنذ بداية السنة، تواجه حركة طالبان الأفغانية انشقاق القادة الذين خيبت آمالهم الزعامة الغامضة للملا عمر الذي أعلنت أجهزة الاستخبارات الأفغانية الأربعاء وفاته قبل سنتين في باكستان، وبات يجتذبهم زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي. إذ وبحسب الباحثين فقد نجح هذا التنظيم المتطرف، حيث فشلت حركة طالبان منذ عشر سنوات، من خلال السيطرة على أراض واسعة في العراق وسورية، والإعلان عن «خلافة» فيها، تنعش فكرة إقامة دولة كبيرة. ومنذ بداية يناير، أقسم عشرة من القادة السابقين لطالبان يمين الولاء بصورة جماعية لتنظيم «داعش»، الذين عينهم بعد ذلك على فرعه في منطقة خراسان التي تضم باكستانوأفغانستان، المهد التاريخي لطالبان والقاعدة.