في منتصف التسعينيات، عندما كنت طالبا في معهد المسرح بالرباط، بدأت مشواري الصحفي كمتعاون مع جريدة «العلم»، التي كان يرأس تحريرها عبد الجبار السحيمي، معلم الأجيال، رحمة الله عليه. ذات صباح كنت على موعد مع السي عبد الجبار -كما كان يناديه الجميع- وحين وصلت طلبت مني كاتبته أن أنتظر «حيت عندو شي ناس». بعد خمس دقائق خرج الفنان نبيل لحلو من مكتبه و»زرب عليّ» بطريقته المميزة: «السي بدومة انت كتقرا فالمعهد ديال المسرح ياك؟ عاد هضر ليا عليك السي عبد الجبار»… ودون أن يتركني أردّ، حسم الموقف كأنه يعاتبني: «لا لا لا، خاصك تجي تمتل معايا فالمسرحية الجديدة!»… كان نبيل لحلو وقتها يهيّء «محاكمة سقراط»، أحد أجمل عروض المسرح المغربي، وجاء عند الراحل عبد الجبار السحيمي كي يساعده في البحث عن ممثلين جدد، عن طريق نشر إعلان في «العلم»، لذلك لم يتردد في أن يطلب مني التمثيل معه بتلك الطريقة المضحكة، بعد أن أخبره السحيمي بأنني أدرس في معهد المسرح. في النهاية، بعد أن تمكنت من الكلام، شكرت مجنون المسرح المغربي على الدعوة واعتذرت له لأنني لا أطمح في أن أصير ممثلا، عندها حيّاني بحرارة، وأكد لي أنه يحترم الناس الذين يعرفون ماذا يريدون، قبل أن يضيف أن الثقافة والفن والصحافة لا تحقق لمن يمارسها إلا ثروة رمزية، وأن من أراد المال هناك ثلاثة طرق سهلة تقود إليه: تجارة المخدرات، بيع السلاح، والدعارة… نظر إلي كمن ينصح أخا صغيرا ورفع سبابته قائلا: أنت مازلت في أول الطريق، وإذا أردت الثروة لا تضيّع وقتك مع الصحافة والفن، «خرج لها كود»! اليوم، كلما تأملت ما يجري في المشهد الصحافي والثقافي والفني، أتذكر نبيل لحلو، العبقري الحكيم وسابق عصره، الذي قذفته الصدفة في البلاد الخطإ… كثير من «الزملاء» يمارسون «القوادة» و»الدعارة» باسم «صاحبة الجلالة»، دون أن يرف لهم جفن. وهي ظاهرة زادت وتيرتها مع تكاثر المواقع الافتراضية، التي تستلهم خطها التحريري من الشعار المهني «كوّر واعطي لعور». لذلك لا يسع الواحد إلا أن يفرح بعودة الروح إلى موقع «لكم»، الذي يديره الزميل علي أنوزلا، لعله يعيد شيئا من المصداقية إلى المشهد الإعلامي، ويصالح القراء مع الصحافة، في زمن باتت فيه المنابر الورقية والرقمية تسير ب»التيليكوموند»، إلا من رحم ربك. وكل ما نتمناه لأنوزلا وفريقه الطموح هو أن يصمدوا وسط العاصفة، دفاعا عن شرف المهنة. ونحن لا نطلب شيئا آخر غير ممارسة المهنة التي نعرف في البلاد التي… نحب! كثير من المنابر التي دافعت عن هذا الشرف وصنعت مجد الصحافة المغربية في السنوات الأخيرة انتقلت إلى رحمة الله أو تحولت إلى نسخ باهتة من مشروع البدايات، تأكلها الشمس في الأكشاك بعد أن كان يلتهمها القراء التهاما. لائحة الصحف التي شيّعت إلى مثواها الأخير طويلة: لوجورنال، الصحيفة، صوت الناس، الجريدة الأخرى، الجريدة الأولى، الأسبوعية، نيشان… ونحن نترحم على أوراقها الطاهرة، لا يسعنا إلا أن نقلق على مستقبل الديمقراطية في بلاد تتحول فيها الصحافة إلى مقبرة جماعية. لا ديمقراطية من دون صحافة حرة. خلال السنوات الأخيرة، مشى المغرب خطوات محترمة على درب التحكم في المنابر الإعلامية وتكسير أقلام الصحافيين المستقلين. بعد سنوات الانفتاح، التي واكبت «العهد الجديد»، والتي شهدت ميلاد منابر مستقلة عن السلطة والأحزاب، سرعان ما تم «تسياق» المشهد الإعلامي ب»جافيل» و»ساني كروا» و»لما لقاطع»… وأغلقت الصحف المزعجة وباتت السلطة تتحكم في معظم المنابر الباقية عن طريق الترهيب والترغيب. هناك طريقة معروفة لترويض القرد، كي يؤدي حركات بهلوانية في السيرك أو في ساحة ملأى بالفضوليين. يعزل السعدان في غرفة رفقة معزة لمدة يومين، يقضيها المروض وهو يطلب من الدابة أن ترقص وتكرر ما يقوم به أمامها من حركات بهلوانية. المعزة طبعا تكتفي بالثغاء لأنها غير قابلة للترويض. في النهاية، يخرج المدرب سكينا ويذبحها أمام السعدان، «هذا مصير من لا يسمع كلام المروض»! القرد الذي يشاهد الدم يسيل أمامه، يلتقط الرسالة جيدا، وبمجرد ما يطلب منه القيام بحركة ما يسارع في تنفيذها ببراعة تفوق تطلعات المروض. الصورة تنطبق على مشهدنا الصحافي. بعد أن رأوا طقوس الذبح التي مورست في حق أكثر من جريدة وصحافي، تحول كثير من «الزملاء» إلى سعادين تتقن الرقص في هذا السيرك المفتوح الذي يسمى مشهدا إعلاميا. من رفضوا الخضوع وجدوا أنفسهم في السجن أو المنفى، وحولتهم الدعاية الرسمية من «صحافيين مهنيين» إلى «معارضين للنظام»، واستبدلوهم بأشخاص لا يعرفون حتى تحرير خبر صغير بشكل مهني، تسلقوا سلالم الثروة في وقت قياسي، بعد أن ألبسوهم قبعات وطرابيش أكبر من رؤوسهم، وحولوهم من صحافيين مبتدئين إلى «رؤساء تحرير» و»مدراء مواقع»… «ملي كيغيبو السبوعا القرودا كيلبسو الطرابش!»