رشيد عفيف قضى ردحا طويلا من عمره يراجع ويؤرخ ويحلل ويكتب عن الآخرين في المغرب وخارجه، بقلم الصحافي وأحيانا المؤرخ وفي بعض الأحيان المفكر. كان محمد العربي المساري يرتدي قبعات مختلفة في مساره الطويل، الذي توقف أول أمس في سن ال79. اليوم حان الوقت ليحظى هذا التطواني الفخور بأندلسيته ببعض من العناية والاهتمام اللذين لطالما أولاهما في كتاباته الغزيرة لشخصيات ورموز سياسية وفكرية عربية ومغربية وأجنبية. إذا ذكر محمد العربي المساري الهادئ صوتا وسمتا، والهادر فكرا وثقافة، ذكرت الصحافة وذكرت إسبانيا. ارتبط اسم وزير الاتصال السابق بالمجال الذي قضى فيه جزءا طويلا من حياته ومساره المهني، باعتبار انتمائه للجيل الأول من صحافيي ما بعد الاستقلال، وفي مهنة المتاعب فجر المساري تعقله وارتباطه، إلى درجة العشق، بإسبانيا ولغتها وثقافتها وشعوبها. من القاهرة إلى الإذاعة بالنسبة لمحمد العربي المساري الصحافة ليست بأي حال من الأحوال مهنة للمتاعب، لقد كانت في نظره نعمة وامتيازا وشرفا لا يحظى به أيا كان. لهذا لم يكن ولوج المساري للمجال الإعلامي بمحض الصدفة، فبعد تخرجه من المرحلة الثانوية حصل الشاب التطواني الطموح على منحة لاستكمال دراسته في مصر لكن نشوب حرب العدوان الثلاثي سنة 1956 سيغير وجهته من القاهرة إلى إسبانيا وكأن انشغاله وبؤرة اهتماماته بدأت تتشكل انطلاقا من هذه المرحلة بمحض الصدفة أحيانا، وبتوجيه أحيانا أخرى. وبمجرد أن التحق بأحد المعاهد الإسبانية لدراسة اللغة من أجل التحضير للدراسة الجامعية كان على محمد العربي المساري أن يتوقف لفترة نظرا لظروف أسرية فرضت عليه العمل. وكبقية بني جيله ممن كتبت لهم فرصة استكمال الدراسة، كان من الضروري أن يجد المساري في طريقه أولئك الذين تبنى على أيديهم مسارات الناس ومصائرهم، ولم يكن الرجل الذي فتح أمامه باب الإعلام سوى المهدي المنجرة، الذي كان آنذاك مسؤولا في الإذاعة الوطنية. فبعد أن قرر ابتعاث فوجين لدراسة الإعلام في الخارج، كان العربي المساري واحدا من الذين حظوا بهذه الفرصة وذهب في بعثة دراسية إلى القاهرة، حيث استكمل تكوينه بالمعهد الإذاعي بالقاهرة. وبعد التخرج لم يجد صعوبة في الالتحاق بالإذاعة الوطنية للعمل فيها سنة 1959. استمر في العمل الإذاعي حتى سنة سنة 1964، فقد كان الصحافي الصاعد يهوى الكتابة وكان لا بد أن يجد فرصة أخرى يبرز فيها مواهبه ويفجر مداركه. جريدة العلم.. قصة حب إذا كان اسمه مرتبطا بالصحافة وإسبانيا، فلا بد من استكمال المثلث بإضافة حزب الاستقلال وصحيفته الناطقة باسم الحزب «العلم»، إحدى أكثر الصحف الحزبية عراقة. يعزو الراحل محمد العربي المساري فضل اهتمامه وحبه للصحافة إلى مدينته الأم التي ولد فيها سنة 1936، ففي تطوان كانت صناعة الصحافة منتشرة بشكل واسع وكانت توزع فيها عدة صحف ومجلات، لكن الدافع الرئيسي لهذا العشق للصحافة المكتوبة كان داخليا، فقد كان الراحل مهووسا بالكتابة واكتشف مبكرا ملكتها لديه وهو كثيرا ما ينسب فضل هذه الملكة إلى أساتذته في مختلف مراحل تكوينه الدراسي. سيبدأ الكاتب المبتدئ سلم الصحافة من درجاته الأولى في سبيل بلوغ طموحه وحلمه الشخصي، فكان لا بد من المرور عبر المراجعة اللغوية في جريدة «المعرفة»، لكنه لم يخف ملكته عن مسؤولي التحرير فتجرأ على خط أولى مقالاته، وكم كان متفاجأ عندما وجدت طريقها للنشر في الجريدة، وبدأت مقالاته تتالى ثم بدأ يرسلها لصحف أخرى تصدر في الخارج مثل صحيفة «النهار» و»البيان». لكن قدر الصحافي عند محمد العربي المساري سيرتبط بجريدة العلم، فمنذ التحاقه بها في الستينيات بدأت قصة حب طويلة بينهما وفيها تدرج العاشق في معشوقته من محرر إلى رئيس للتحرير إلى مدير للجريدة، التي قضى فيها سنوات طوال جعلت منه واحدا من الأقلام الصحفية الأشهر في تاريخ الصحافة الوطنية، وخولته ولوج مسؤوليات الإعلام الرسمية والنقابية من بابها الواسع. هذا الوفاء الذي وسم شخصية الرجل لمهنته لم يكن من فراغ، فقد كان يمارس المهنة واعيا بأهميتها وخطورتها الاجتماعية والثقافية، يقول المساري في إحدى لقاءاته الصحفية: «نحن الصحافيين لنا سلطة غير محدودة وسلطة تقديرية لا تناقش بل تمارس بآنية، وهذه الآنية هي التي تسبب لنا أحيانا بعض الأعطاب. غير أنه ليس من حق الصحافي أن يفاجأ بأي شيء، عليه أن يكون ملما بعيون الأمور: أن يعرف نسبية انشتاين وجاذبية نيوتن، ولماذا وجدت محكمة الجنايات الدولية، والفرق بين الضريبة المباشرة وغير المباشرة، وطبعا ليس مطلوبا منه أن يكون متخصصا». هذه الموسوعية التي يتحدث عنها المساري هي التي جعلت منه صحافيا فوق العادة لم يحصر اهتماماته في نقل الخبر كما هو سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا. الوزير الصحافي الصحافة التي عشقها المساري ورهنت حياته لم تكن بوابته فقط نحو الشهرة والفكر والامتداد الثقافي العربي والإسباني، بل كانت أيضا تلك القنطرة التي عبر منها عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال منذ منتصف السبعينيات إلى منصب وزاري حساس في ظرفية سياسية حساسة كان من المفروض أن ينتقل من خلالها المغرب إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي. كان ذلك سنة 1998 عندما اختاره الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي ليكون ضمن طاقمه الحكومي في أول تجربة للتناوب التوافقي في المغرب. لكن طموح الصحافي الذي ينتزع حقيبة وزارية ظلت تحت سلطة وزارة الداخلية طيلة سنوات الرصاص، سيصطدم بسرعة بما اصطدمت به آمال الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي في تدشين مسار انتقال ديمقراطي حقيقي. كان مشروع المساري على رأس وزارة الاتصال قائما على تحقيق إنجازين أساسيين بالنسبة له «قانون الصحافة الجديد» وإنشاء «المجلس الأعلى للصحافة». في مواجهة هذين المشروعين ستتحرك دوائر النفوذ بسرعة وسيجد الوزير الهادئ، الذي لم يعرف عنه تهافت أو تشبث بالمناصب نفسه في مواجهة مؤامرات محبوكة تنتمي لعصر ادريس البصري. وقبل أن يتم سنته الأولى على رأس الوزارة، وجد المساري نفسه مضطرا لوضع استقالته على مكتب عبد الرحمان اليوسفي، فقد اكتشف أن لا سلطة حقيقية له على الإعلام العمومي ورفض أن يكون وزيرا بدون صلاحيات. تجسد ذلك في معركة خفية بين مبادراته واقتراحاته وردود أفعال حكومة الظ،ل فبينما كان يفاوض نور الدين الصايل لتعيينه على رأس الإذاعة والتلفزيون، بادر ادريس البصري إلى ترقية المدير العام للتلفزة اطريشة من رتبة عامل إلى رتبة والي، وتم الالتفاف على كل المشاريع التي أطلقها وخصوصا الاستشارات التي كان الهدف منها تفعيل مخطط لإعادة هيكلة الإعلام العمومي. وأدرك الوزير الصحافي بسرعة أن المتاريس والعوائق الموضوعة أمام حكومة عبد الرحمان اليوسفي أكبر من أن يتم تجاوزها، فما كان منه إلا أن غادر الحكومة في أول تعديل حكومي سيتم إجراؤه في شتنبر 2000. العربي المساري الإسباني إذا كانت تجربة الوزارة قد تطلبت من الرجل فتح جبهات من النضال والمواجهة بدون جدوى ودفعته إلى الاستسلام بواقعية كبيرة، فإن العربي المساري لم يكن أمامه باب واحد فقط، كان عشقه للصحافة والثقافة وإسبانيا عالما يفتح أمامه كل أبواب الدنيا بعيدا عن المناصب والمسؤوليات. يفضل الرجل أن يقضي ساعات طويلة إلى جانب خزانته يطالع ويقرأ عن الجارة الإيبيرية التي جعله ارتباطه بها واحدا من المختصين في الشأن الإسباني. ولو لم يكن المساري مغربيا لكان إسبانيا بالشغف والانشغال. لقد ربط القدر بينه وبين الجارة الشمالية بانطلاق أولى صرخاته في الدنيا، فقد شاءت الأقدار أن يكون من مواليد 8 يونيو عام 1936، أي أسبوعا واحدا قبل قيام فرانكو بالحركة الانقلابية في إسبانيا. يقول المساري عن هذه المسألة: «حياتي ارتبطت بإسبانيا منذ لحظة الميلاد. والدي ذبح لي كبشين، الأول عن اسم محمد باعتباري الابن البكر، والثاني عن اسم العربي للتمييز. في حفل السبوع لم يحضر أحد من المدعوين، لأن الجمهوريين كانوا يقصفون المدينة والبلاد مفتونة. فدعا والدي الطلبة حفظة القرآن لتناول العشاء». لكن هذا الشغف بإسبانيا لغة وثقافة وتاريخا سيترسخ بعد الميلاد بسنوات عندما سافر المساري إلى غرناطة لتعلم اللغة الإسبانية في أحد معاهدها. يروي تجربته في هذه المرحلة ويقول: «عندما زرت غرناطة استيقظت هناك على الموضوع الإسباني، ولم أنفك منه إلى الآن. كان لدي ارتباط خاص بهذه المدينة باعتبارها آخر مدينة خرج منها المسلمون. كنت أزور قصر الحمراء كل أحد وأعرفه ركنا ركنا». وبعد أن بدأت قصة الحب الأزلية بينه وبين إسبانيا شرع الشاب التطواني في مطالعة كل ما يقع بين يديه من مؤلفات للكتاب والشعراء الإسبان، ثم بدأ بترجمة الكثير من المؤلفات الإسبانية، وهذا العمل كان يغذي عمله في الإذاعة، حيث كان يترجم قصائد لشعراء إسبان ويذيعها بالعربية. ومن بوابة الإسبانية سينفتح بعد ذلك على العوالم الناطقة بلغة سيرفانتيس وعلى رأسها أمريكا اللاتينية. من الصحافة إلى الوزارة، ومن الإذاعة إلى الجريدة ومن النقابة إلى السفارة، كانت حياة محمد العربي المساري حافلة بالبذل والعطاء، لكنه كان عطاء حب وبذل عشق كانت بالنسبة له رحلة ممتعة قطعها بهدوئه وتؤدته التي تعودها عنه كل من عرفه عن قرب. ومن بين كل المواقع والمناصب والمسؤوليات التي تقلدها، كان المساري ابنا بارا لصاحبة الجلالة، للصحافة، «فحتى عندما كنت وزيرا كنت متشبثا بصفة الصحافي أكثر من غيرها» هكذا يقول في إحدى حواراته. المساري السياسي – عضو في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال منذ 1974، – بين 1984-1992 ترأس الفريق النيابي الاستقلالي للوحدة والتعادلية – تولى وزارة الاتصال من مارس 1998 إلى شتنبر 2000 – كما عين سفيرا للمغرب بالبرازيل المساري الإعلامي – اشتغل في الإذاعة من 1958 إلي 1964 – كاتب عام اتحاد كتاب المغرب في ثلاث ولايات 64 و69 و72. – عضو الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب منذ 1969 – نائب رئيس للاتحاد من 1996 حتى 1998 المساري المثقف – سنة 1978 نسق فريق المثقفين الإسبان والمغاربة. – في 1996 أصبح عضوا في لجنة ابن رشد للحوار مع إسبانيا. – في سنة 2000 عضو المجلس الإداري لمؤسسة الثقافات الثلاث للمتوسط – عضو لجنة تحكيم جائزة اليونيسكو لحرية الصحافة «غييرمو كانو» لسنوات 2002 و 2003 و 2004. – ترأس لجنة التحكيم للجائزة الوطنية الكبرى للصحافة 2003، – ترأس لجنة جائزة المغرب للآداب سنة 2004