تعيش بلدان المغرب الكبير (خصوصا تونسوالجزائر والمغرب) بكثير من القلق الظاهر والتأهب، التحدي الإرهابي الزاحف من الشرق، والذي يمثله تنظيم «الدولة الإسلامية». ويزيد الوضع المتفجر في ليبيا منذ سنوات، حيث سمح تفكك منظومة الدولة المركزية بترسيخ «داعش» لأقدامها»، من الضغط المتواصل على أجهزة الجيش والأمن والاستخبارات في البلدان الثلاثة، ما يدفع بها إلى مواجهة التحدي كل دولة بحسب اجتهادها الخاص.. ففي حين اختارت تونس حماية حدودها من خلال إقامة «جدار ترابي» على الحدود مع ليبيا، أقامت الجزائر على حدودها مع نفس البلد المغاربي، ما يمكن اعتباره «جدارا عسكريا» قوامه الآلاف من الجنود مع أسلحة ثقيلة برية وجوية ضخمة. بينما اختار المغرب الذي لا تربطه حدود برية مع ليبيا الرد على التحدي من خلال حرب المعلومة المضادة للإرهاب التي تفوق فيها، حيث تخوضها في صمت أجهزة استخباراته. بيد أن السؤال الذي يطرحه الموقف بالنسبة إلى خيارات البلدان الثلاثة هو: ما مدى نجاعة سياسة «الجدران الحدودية» تلك، في رد خطر الإرهاب العابر للحدود؟ لم تفلح ليبيا في إيجاد مخرج لها من الثورة إلى دولة ديمقراطية يتعايش بداخلها كل الليبيين، وغاصت في مستنقع العنف المجنون والفوضى يوما بعد يوم. فالميليشيات المتناحرة التي ينتمي أفرادها إلى مدن وقبائل مختلفة تتقاتل فيما بينها دون نهاية، فيما البلد يتمزق على وقع انقسام سمته الأبرز وجود برلمانين اثنين. ومنذ غشت للعام الماضي خطت ليبيا خطوة كبرى أخرى نحو المجهول، حيث أصبح يحكم في طرابلس متمردون إسلاميون، فيما لجأ البرلمان المعترف به دوليا إلى مدينة طبرق في شرق البلاد، وتَكرس بجلاء واقع الانقسام الخطِر. ومن أهم الجماعات الجهادية المنضوية تحت لواء «الدولة الإسلامية» (داعش)، توجد جماعة «أنصار الشريعة» المتطرفة الآخذة في اكتساح الساحة حيث تحولت في ظرف وجيز من مجموعة هامشية إلى تنظيم يتقوى باستمرار ويستقطب العديد من الليبيين. لقد برز تنظيم «الدولة الإسلامية» بليبيا أول مرة في خريف 2014 في المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد، التي كانت معقلا للإسلاميين المتشددين منذ عهد معمر القذافي. ومن هناك زحف مقاتلوه على مدن أخرى مثل سرت، وصبراتة القريبة من الحدود التونسية، وقام بقطع رؤوس 21 مسيحيا مصرّيًا، واستقطب إلى صفوفه عددا من المقاتلين المتطرفين الذين سبق لهم أن حاربوا في صفوف «داعش» في سوريا والعراق فأصبحوا قادته وعماده الأساسي. وهكذا سمح تفكك الدولة بأن تتحول ليبيا إلى أخطر بؤرة لتمركز الإرهابيين في شمال إفريقيا، حيث تؤوي حاليا معسكرات لتدريب المتشددين الإسلاميين، استولى عليها داعش شرق البلاد وباتت تهدد بلدان المغرب الكبير وأوروبا. ففضلا عن استقطاب المقاتلين من كل البلدان وتدريبهم، تنشط جماعة «أنصار الشريعة»في تهريب السلاح عبر ليبيا إلى العمقين الإفريقي والمغاربي. تونس تبني جدارا ترابيا مع اقتراب الإرهاب الداعشي من حدود تونس، كان واضحا أن شرارة الإرهاب لن تتأخر في محاولة إحراقها. فاهتز متحف باردو في العاصمة في مارس الماضي على وقع هجوم إرهابي، ثم تلاه هجوم آخر على سياح غربيين بمدينة سوسة قبل أسابيع قليلة. وكشفت التحقيقات الأمنية بأن منفذي العمليتين تلقوا تداريب عسكرية في معسكرات الجماعات الجهادية في ليبيا، ما دفع رئيس الحكومة التونسية إلى الاعتراف بأن «ليبيا أصبحت معضلة كبرى»، وفق تعبيره. وفي أعقاب عملية سوسة الإرهابية بات واضحا بأن تونس مستهدفة بجدية من جهات تتخفى خلف الجماعات الإرهابية، وفرض على حكومتها الإسراع في إتمام إقامة «الجدار الترابي الذي خلفه خندق»، باعتباره أولوية قصوى لحماية الحدود ومنع تسلل الإرهابيين وتهريب السلاح. وكانت الحكومة التونسية شرعت في بناء الجدار في 10 أبريل الماضي، تفعيلا لفكرة كان اقترحها في صيف 2013 الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، وتقضي بإقامة منطقة حدودية عازلة جنوب شرقي تونس. ويمتد الخندق العازل من معبر رأس جدير الحدودي مع ليبيا وحتى معبر ذهيبة،على مسافة 186 كلم في شطر أول، وأقرت الحكومة لاحقاً إضافة 40 كلم أخرى ضمن شطر ثان، وتقدر تكلفة إنجازه 150 مليون دولار. ومن أجل تسريع إنجاز الجدار، تستعين قوات الجيش التونسي بمقاولات القطاع الخاص بحيث يرتقب إنهاء الأشغال مع أواخر العام الجاري. لكن المشروع يثير الكثير من الجدل داخل كل من تونس نفسها كما في ليبيا المجاورة. فقد هددت حكومة الإنقاذ الوطني المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام الأسبوع الماضي، السلطات التونسية من أن الإقدام على بناء جدار فاصل على الحدود بين البلدين دون التنسيق معها لن يحقق لها الاستقرار المنشود. وجدد الطرف الليبي المذكور دعوته الجهات الرسمية التونسية إلى أن تسرع في تكوين لجان تقصي مشتركة للتحقيق في الحوادث (الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها تونس انطلاقا من التراب الليبي)، محذرة من «استمرار توجيه الاتهامات للشعب الليبي بدون أدلة». أما من الجانب التونسي فقد تصاعدت أصوات الانتقاد بين مواطني المناطق الحدودية الذين اعتبروا الجدار «تهديداً حقيقياً لمصادر أرزاقهم»، إذ يعتاش قسم كبير منهم من النشاط التجاري مع ليبيا سواء عبر المنافذ الرسمية التونسية، أو من خلال التهريب الذي يعد المورد الرئيسي لسكان جنوب شرق تونس. وكانت مدن تونسية حدودية عاشت احتجاجات قبل أشهر على التضييق الذي أضحت تعانيه في سبيل جلب السلع من ليبيا. ويسجل ضمن ردود الفعل الساعية إلى تهدئة الأجواء تصريح زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي، الذي أكد خلال إفطار رمضاني مع عدد من الشخصيات الليبية في تونس خلال أواخر رمضان، بأن الخندق والجدار الترابي الذي يقوم الجيش التونسي ببنائه على الحدود مع ليبيا «مؤقت وفرضه خطر الإرهاب والتهريب». وأكد بأنه ستتم إزالته عندما يتحقق السلام في ليبيا. الجزائر تقيم «جدارا» عسكريا على الطرف الغربي، تعيش الجزائر التي تجمعها حدود شاسعة مع كل من ليبيا وتونس مخاوف كبرى بسبب التداعيات المنفلتة للوضع الليبي، حيث رفعت قيادة الجيش الجزائري وأذرعه الأمنية درجة التأهب في صفوفها إلى القصوى، مباشرة بعد تنفيذ الهجوم الإرهابي في سوسةبتونس. ورفعت حالة التأهب وسط أربعة فروع من القوات البرية التي تشارك في عمليات تأمين الحدود في النواحي العسكرية الخامسة والرابعة على الحدود تونس وليبيا، وكذا القوات الجوية المتخصصة في عمليات الرصد والاستطلاع، والمصلحة المركزية للمعلومات ومكافحة الإرهاب، ومصالح الاستعلامات والأمن على امتداد المناطق الساخنة القريبة من الحدود. وبالمجمل تم نشر 12 ألف جندي على طول الحدود الشرقية الواقعة بين كل من الجزائروتونس بطول 1000 كيلومترات، وصولا إلى مثلث الحدود التونسية الليبية الجزائرية الملتهب منذ سنوات. ومن أجل مراقبة أوسع، أقيم أزيد من 60 برجا للمراقبة مدعمة بكاميرات حرارية، تغطي كل واحدة منها مسافة 3,5 كيلومتر. وتسمح بمراقبة التحركات المشبوهة لمافيا التهريب والإرهاب. ووضعت القوات على أهبة الاستعداد التام للتصدي لأي طارئ أو محاولة لخرق الحدود من طرف عناصر تنظيم القاعدة أو تنظيم داعش، حسب تقارير إخبارية جزائرية. وفي الوقت نفسه تواصل الطلعات الجوية لحرس الحدود الجزائري تمشيط الحدود ساعة بساعة، بينما يكثف جهاز الدرك نقاط المراقبة بتنسيق مع الجمارك، مع التمركز بالقرب من الخنادق المحفورة, مؤخرا, وبعض المسالك القروية على الحدود، مع رفع تقارير فورية للقيادة. وتفيد آخر المستجدات أن الجزائروتونس يدرسان مشروعا جديدا لمراقبة الحدود البرية إلكترونيا لمنع تسلل الإرهابيين والأسلحة، حيث تعكف لجنة تقنية أمنية وعسكرية مشتركة شكلت مؤخرا. والبحث في مهمة تجهيز الحدود الجزائريةالتونسية الممتدة على مسافة 965 كلم بمحطات مراقبة على جانبى الحدود، مزودة بنظام إلكترونى للإنذار ضد عمليات التسلل من قبل العناصر الإرهابية والمنظمات الإجرامية والأسلحة. هشاشة «الجدران» برأي خبراء أمريكيين، فإن تجارب البشرية مع الأسوار التي أقامها الإنسان منذ آلاف السنين عبر العالم، أكدت بأنها تنجح فى العادة في إبقاء الناس في الداخل أكثر من إبقائهم خارجا، وأن نجاح أى جدار فى مهمته يعتمد من جهة على التسليح الثقيل، ومن جهة ثانية على استعداد الحراس لإطلاق النار وقتل المئات من الناس ممن يحاولون التسلل عبر الأسوار.ووفق المصدر ذاتها، فإن الجداران الأمنية الأكثر فعالية فى الوقت الراهن يوجد بعضها فى إسرائيل، ومن بينها الجدار العازل المقام حول الضفة الغربية، وهو حاجز الخرسانة الكبير الذي سمح منذ إقامته قبل سنين بحدوث انخفاض حاد فى الهجمات «الإرهابية» على إسرائيل. ومن ضمن الجداران الأخرى الناجحة التي أشار إليها الخبراء في تصريحات لوسائل إعلام أمريكية، الجدار الفاصل بين الحدود الأمريكية المكسيكية الممتد بطول 2000 ميل، وبلغ طول الجدار 640 ميل منذ عام 2006 وكلف تشييده ملايير الدولارات، ونجح في وقف تسلل المهاجرين غير الشرعيين بسبب علوه وصعوبة اختراقه. لكن الخبراء أوضحوا بأن منع اختراق حدود طويلة بالكامل أمر مستحيل، سيما حين يتضافر طول الحدود مع صعوبة نشر قوات كبيرة من الجنود المسلحين على طولها لما يتطلبه ذلك من تكاليف باهظة. وتعليقا على الحالة التونسية، شكك الخبراء في فعالية الجدار الذي يتم إنشاؤه على الحدود مع ليبيا في وقف تسلل الإرهابيين بسبب وجود مسالك بديلة يمكن لهم التسلل عبرها. أما بالنسبة إلى الجزائر فيرون بأن لديها حدودا طويلة جدا مع ليبيا، من الصعب القيام بدوريات فيها بشكل فعال، رغم التصريحات الجزائرية التي تؤكد بأن قواتها فى حالة تأهب قصوى وبأن الوضع تحت السيطرة في سياق ذلك، يبدو أن تعقيدات الوضع الإقليمي مغاربيا مرشحة للتفاقم في القادم من الأيام. ومن المؤشرات الدالة على ذلك أن تونس شرعت في إقامة جدارها الحدودي مع ليبيا بعد زيارات الرئيس السبسي لعواصم غربية وازنة (واشنطن وباريس)، واستشارات مع قادة العالم. كما أن الولاياتالمتحدة وفق ما أفادت تقارير إخبارية أمريكية، تسعى إلى إقامة قاعدة لطائراتها بدون طيار في بلد حدودي مع ليبيا، إما في تونس أو الجزائر أو مصر أو النيجر أو تشاد أو السودان؛ ولعل ذلك ما يؤشر على أن الحرب على الإرهاب في العقر الليبي مرشحة للدوام سنينأخرى، وبأن لا أمل في ظل الوضع الحالي في إنجاز مصالحة بين الإخوة الأعداء في ليبيا. أما الحل الحقيقي والأنجع حسب مراقبين تونسيين وليبيين وهم الأقرب إلى بؤرة الصراع، فلا يمكن أن يتأتى إلا من خلال إنجاح جهود المصالحة بين فرقاء الأزمة الليبية بأي ثمن.. وهو حل يجب أن تتوحد لتحقيقه جهود كل من المغرب والجزائر معا، لا جمع أطراف النزاع الليبي بالتناوب، تارة في المغرب وتارة أخرى في الجزائر !