نجح مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل، بمناسبة ذكرى استقلال المغرب، في جمع ثلة من الباحثين من خارج المغرب ومن داخله للحديث عن قضية لا تزال طرية في الذاكرة المغربية، وهي قضية التعاطي مع موضوعة الاستعمار، باعتباره ماضيا بالفعل، لكن أيضا بوصفه إرثا معاشا في الحاضر. وقد اختار المركز، الذي يديره الصديق عبد السلام بوطيب، أن يكون عنوان الندوة الدولية هو «الحماية الفرنسية بالمغرب بين التاريخ والذاكرة و السياسة». وفي الوقت الذي أفلح المركز في اختيار محور اللقاء، لم يتوفق كثيرا في اختيار الضيوف. ليس التفكير في الاستعمار حكرا على المؤرخين، لأن الاستعمار ليس مجرد واقعة تاريخية يستدعى المؤرخ لوضعها في سياقها الزمني، بمثل ما إن الظاهرة الاستعمارية لا يصنعها السياسي وحده، بل يصنعها المثقف والعسكري والمواطن العادي الذي يصبح معمرا. وقد أوضحت في مداخلتي أننا عندما نتحدث عن الذاكرة، في علاقتها بالاستعمار، لا نتحدث عن التاريخ بشكل حصري، لأن هذا الأخير ليس سوى جزء من الذاكرة، وللبحث في الذاكرة لا تكفينا الأرشيفات التاريخية، بل لا بد أيضا من ملامسة ما هو حاصل في الذاكرة الجمعية للشعبين المتقابلين في المعادلة الاستعمارية، الشعب المستعمَر والشعب المستعمِر، ولاكتشاف ما تختزنه الذاكرة الجمعية لا بد من الإنصات إلى الأغنية وقراءة ما يكتبه الآخر عنا في كل مناسبة سواء في الصحافة أو في أدبه، وما تقوله اللوحة الفنية التي تنتمي إلى الفن الغرائبي الذي «يشرقن» المستعمَر باعتباره كائنا أقل قيمة. وضربت مثلا على ذلك ما تختزنه الثقافة الإسبانية المعاصرة عن المغرب والمغاربة من صور سلبية تنتمي إلى المدارس البدائية في الاستشراق، عندما كان مجرد انطباعات عمياء لا يسندها دليل، فبالرغم من كل التقدم الذي يحصل على المستوى السياسي والاقتصادي والتجاري بين البلدين، لا تزال تلك الصور النمطية هي السائدة، تغذيها الصحافة الإسبانية بين الحين والآخر كلما طفت أزمة على السطح، كما لاحطنا مثلا عند اندلاع أزمة جزيرة ليلى صيف عام 2002، وهذا يعني أن المستوى الثقافي هو أكثر المستويات صعوبة في التغيير، وأنه إذا كان التطبيع السياسي أو الاقتصادي بين شعبين يتطلب مدة زمنية قليلة، وأحيانا لا يتطلب سوى مجرد توقيعات على اتفاقيات، فإن المسألة الثقافية تتطلب عقودا طويلة من أجل تغييرها، وأحيانا أكثر من قرن، ومع ذلك لا يمكن أن تخضع للتغيير إذا لم تكن هناك جهود قوية من الجانبين معا. وطالما أن الحديث كان يتعلق بالذاكرة في الحالة الفرنسية المغربية، فإن ما يبدو لي مهما هنا هو الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. في الحالة العامة يعبر الأدب عن البنية العميقة للذهنية الجماعية، وهو يمثل بناء على ذلك المرآة التي تعكس ثقافة الشعوب وما تحتفظ به من صور وانطباعات حول بعضها البعض مركوزة في المتخيل الجماعي، ولهذا السبب ذهب إدوارد سعيد إلى الأدب الأنجليزي والفرنسي لاكتشاف صورة الشرقي في المتخيل الغربي، ولم يذهب إلى كتابات المستشرقين الصريحة، وهذه هي قوة كتابه «الاستشراق». من يقرأ الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية سوف يجد أنه في جزء كبير منه يدور حول محور واحد يثير شهية المستعمر بكسر الميم وهو الجانب العجائبي أو«الإكزوتيكي» كما يحب البعض، ومعنى ذلك أن الكاتب المغربي باللغة الفرنسية يكتب ما يريد الفرنسي أن يقرأه، أي أنه يعيد تكرار ما يحتفظ به المتخيل الجماعي الفرنسي عن المغربي. فالمشكلة أن الاستعمار خلق ثقافة نافذة وجعلها بمثابة قيم كونية غير قابلة للتشكيك فيها، وعندما يتوجه النقد إلى ثقافة الاستعمار يظهر كما لو أنه موجه بالأساس إلى تلك القيم الكونية، لأن الاستعمار خلق في ذهنية المستعمر بفتح الميم انطباعا بأن ثقافته هي القيم الكونية وهذه هي تلك. وفي المقدمة الجميلة التي كتبها جان بول سارتر، فيلسوف الوجودية الفرنسي، لكتاب «معذبو الأرض» لفرانز فانون، الطبيب والمناضل المارتينيكي الذي ناضل ضد العبودية والاستعمار وحارب إلى جانب الجزائريين ضد فرنسا، يقول صاحب»الغثيان»:«منذ زمن بعيد جدا كان عدد سكان الأرض مليارين، منهم خمسمائة مليون من البشر، وخمسمائة مليون من«السكان الأصليين»، فالأولون يملكون«الكلمة»، والآخرون يستعيرونها». بعد خمسين عاما من كتابة هذا الكلام كتب عام 1961 لا تزال الصورة هي هي.