تعرض أسماء علمي ابتداء من عاشر دجنبر، برواق سيزار وعلى مدار شهر، أعمالا جديدة تحمل هواجس الهوية الثقافية في زمن العولمة والاتصالات، تكشف عن عزلة الأفراد والمجتمعات في سجن واحد يسمى الشبكة العنكبوتية، وفق معالجة تنطلق من التشخيص نحوالتجريد، ويشكل اللون سيد مساحتها وناظم بنيتها. تستعد الفنانة أسماء علمي لأن تقدم شيئا يختلف عن السياق الإبداعي الذي يغمر معارضنا، بوضعنا أمام هواجس الهوية الثقافية في عالم تزداد عولمته، لتلح في سؤالها هل غدا العالم واحدًا؟، وأي عالم واحد هذا؟، وكيف نعيش عصر الإنفجار في زمن الاتصالات والتكنولوجيا التي أصبحت السمة النوعية لعصر العولمة؟، وماهي التحولات الجوهرية التي تمس الفرد في ظل شبكات إلكترونية ووسائل إعلام متعددة تنمو نموًا سريعًا، فارضة مع قوى السوق واقعًا جديدًا في ميدان الثقافة؟. تقول أسماء علمي في تصريح ل«المساء» بمناسبة معرضها الجديد، الذي سيفتتح يوم العاشر من دجنبر القادم برواق سيزار، «إننا نعيش بين الجنة والنار، فالاتصالات تسهم في تطوير المعرفة والمعلومات تطويرًا إيجابيًا وفي الوقت نفسه تسهم في النمو المفرط للخيال والعزلة وبالتالي في التلاعب بالناس. وأن الاتصالات تشكل هذه الأيام تهديدًا كبيرًا للحرية، وفي الوقت نفسه قوة لتطورالإنسان». وتضيف، «بين الإغراق الحسي في تحريك اليدين وإجهاد العينين والدراعين بالنقر على لوحة مفاتيح الحاسوب وتحريك الفأرة، أومحركات ألعاب الفيديو إلى غيرها من التنبيهات الحسية التي تخلف إجهادا بسبب السهر وساعات الجلوس الطويل في هذا النشاط النفسي، هناك حرمان حسي، وعزلة حسية وحرمان من المعنى، ومايتبع ذلك من فقدان الحساسية للواقع بالانفصال عنه، والاستغراق في عوالم داخلية ترتبط بالأخيلة والأحلام، وربما الهلاوس أيضا، إنه عالم وهمي بديل منفصل ومنعزل». وتردف «إننا نعيش زمن التواصل بدون تواصل، علاقات تفقد صوتها الحميمي، رجفة القلب، تورد الخدود من شدة الخجل، الجالس أمامك في موقعه الافتراضي لم تعد تدري الحالة الحقيقية التي هو عليها وإن كان قد نظف أسنانه ووجهه بعد استيقاظه من النوم أم لا؟، أبجديات الكتابة بالحبر فقدت، فلم نعد نعرف الإمساك بالقلم، لغات مهجنة صعب على الفايس بوك تصحيحها... (النيت) ليس واضحا بل مضببا، عكس ما يدعي عن نفسه، العزلة الجماعية في إطار وحدة جماعية تروم الحماية في سجن الشبكة العنكبوتية.. هذه عينات من المفارقات التي أضحت تسم حياتنا المعاصرة، تقول علمي، وهذا ما حفزني لأشتغل على الموضوع فنيا، بعد بحث معمق حول الظاهرة وتجلياتها وآ لياتها وآثارها على الناس، بحث أنجزته على مدار شهور بكندا، وبعد اختمار الفكرة في جوانب عدة انطلقت في العمل، وتركت لنفسي الانفلات من عقالاتها الصارمة للبحث عن صياغات تشكيلية تنوس بين التجريد والتشخيص ويكون اللون سيد مساحتها، ليتحول التجريد إلى مجرد تبصيمات. جاءت أعمال أسماء علمي وعلى عادتها مفطورة على شاعرية السطح، تقشف وولع بالبذخ، وحميمية فضاء، كلمات ومفردات انجليزية وفرنسية وعربية كتبت بالعربية، تبدو مشفرة صعبة على القراءة، أشكال بملامح واقعية وأبعاد استعارية: مصيدة فئران، فأرة الحاسوب والتي تأخذ أحيانا لطخة منوية، أسلاك رقيقة مثبتة على اللوحات، خيوط القنب التي تستعمل في صناعة الجبص، الشعر للتأكيد على الربط والتواصل في نفس الآن، اللصاق، وغيرها من المواد والأكسسوارات التي تمت إعادة تشكيلها وتوليفها في لحمة غرافيكية لا يبرزها إلا حياة اللون في انتقالاته وتدرجاته وتعاكساته وتغضناته العفوية والحرة، لتعزف على تقاسيمها في النهاية جملة موسيقية آسرة من الصرامة والرقة، مقدمة موضوعها ومفرداتها ولغتها وقيمتها من اللوحة نفسها خطاً ولوناً وبناءً وشحنة، مبرزة هويتهاالشخصية ومكونة أغنيتها الخاصة. تبدو هذه الأعمال وكأنها خرجت من رحم مجموعة معرضها السابق ومنفصلة عنها في نفس الآن، إذ تتوحد في الاشتغال على اللون، فأسماء تنطلق في سكب العجائن، ومن ثم يأتي دور الألوان والمواد الطبيعية لترسب عليها طبقاتها العديدة تاركة لألوان الأكريليك المخففة بالماء أن تتسرب إلى الشقوق والتلافيف مكررة ذلك طبقة إثر طبقة، مستخدمةً مرة ألواناً أحادية قاتمة ورصينة كالأبيض أو الرمادي أو البني المحروق، ومرة مجموعة ألوان نارية متضاربة تشعل سطح اللوحة كالأخضر المشبع بالأصفر مع الأحمر والبرتقالي يهيّجها أزرق الكوبالت أو الأزرق القرمزي الأثير على قلب أسماء، وهي ألوان بقدر ما تبدو معها اللوحة رصينة رومانسية في اللون الأحادي، تبدو شرسة وقحة لعوباً عند تعدد ألوانها!. وتنفصل عن الأعمال السابقة في كون اللون ينطلق هذه المرة من أعماق الشكل المشخص، يتدفق وينساب لا تحده إلا منحنيات وخطوط متموجة تقويه ولا توقف مجراه إلا لكي يمتد من جديد محدثا اهتزازات على شكل دبدبات تشد النظر نحو العمق. وفي مجال الخلفية تتيح للشكل المشخص ظهوره وانكشافه، فاللون، بالنسبة لأسماء، وسيط لسبر الروح الداخلية للموضوع ولتشخيص إثارات تسبق المشهد أو تعقبه. إنه يعبّر عما تعجز الكلمة عن التعبير عنه، من دون أن يفقد وظيفته كعنصر تكويني في بناء اللوحة، فليست القيمة الجمالية البحتة للون هي التي تثير اهتمامها أوأبعاده التعبيرية المباشرة له، وإنما قدرة اللون على معايشة وكشف عمق الموضوع، الذي هو في آخر المطاف سفر بين النهائي واللانهائي، بين الواقع والمفترض. رحلة في العوالم العنكبوتية تقدم أشكالا لا تغوص في التفصيل، بقدر ماتهتم بالإيجاز وبروح العمل الذي يمكن أن يأسر عين المتلقي، فعند اللون تلتقي كل خيارات أسماء الفنية، ففيه تجرب عبثها وحريتها، ومن بين إشراقه وانكفائه تنبجس مصادر التوتر وفسح الاستعراض. اللون هو بوصلة الفنانة ومتاهتها الأخيرة، لدى تحرص على إعداد ملونتها بنفسها خلطا واقتناء من أسواق أوربية أو بالاعتماد على مواد طبيعية، فتضبطه مابين ميزان العقل والعاطفة في بناء كثيف الشاعرية. أسماء علمي لم تصنعها الموهبة فحسب، بل صنعها أيضا عملها الدؤوب.