مع مطلع الستينيات من القرن الماضي أعلن خوليو كورتزار نهاية القراءة، وبداية انقراض القراء من عالم أرهقته الكتابات، إلى حد أن الكتب كفّت فيه عن أن تكون كلاما دائرا بين الناس، وأضحت مجرد أشياء تتكدس في الفضاء. من دون شك أن الصيحة التي عبر عنها كورتزار في ذلك الزمان كانت تعبيرا عن نوع من الحذر مما تخبئه الأزمنة الحديثة من مخاطر التشييء والتسطيح وفك الارتباط بما قد يدل الإنسان على مسارات الالتقاء بوجوده والإحساس بهويته. وليست القراءة إلا عاملا بالغ الأهمية لتقوية التمسك بما ينمّي في الإنسان شجاعة السؤال والبحث عن الذات. وبين بداية الستينيات واللحظة الراهنة التي نعيشها تنتصب مسافة زمنية تقدر بنصف قرن، والصيحة لا تزال أصداؤها تتردد بيننا بقوة حتى لكأنها باتت تلقي بظلال من السلبية التي لا يستطيع أي كان أن يغض الطرف عما يمكن أن يستتبعها من مرضيات وأنساق بالغة الابتذالية والسطحية. وأحسب أن هذا الوضع يستوجب القيام بدراسات وأبحاث ليس فقط من أجل قياس مستوى الإقبال على القراءة، بما تدل عليه من معاني الممارسة الفردية والرغبة في البحث عن المعرفة بل، وكذلك، للتعرف على اتجاهات القراء بين أفراد المجتمع بشكل عام، وفئة الشباب بشكل خاص، وما يتحكم فيها من أهواء وتخيلات واستيهامات واحتياجات آنية. القراء الشباب هم قراء المستقبل ومبدعوه، ذلك أنه لا يمكن أن نتصور ظهور كاتب متميز ضمن ثقافة ما إذا لم يكن قارئا جيدا. وهذه الدلالة هي التي يمكن اشتقاقها من ذلك التقليد الجميل الذي ميز الثقافة العربية الكلاسيكية حينما كان الشعراء الكبار يعرضون على من يرغبون في امتلاك ناصية الإبداع عددا كبيرا من الأبيات الشعرية ويطلبون منهم استظهارها بالكامل، وهي إشارة يمكن أن نقرأ فيها أكثر من دلالة على أن الإبداع لا يخلق من عدم، وإنما هو استثمار لما تختزنه الذاكرة من متون وصور ورموز ومواقف. ومعلوم أن هذا التشخيص الذي نتحدث عنه تبلور في الأوساط الغربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وفي خضم النقاش المفتوح حول أزمة المدرسة، وذلك فيما قُدِّمَ من أبحاث تستثمر الأدوات والمنظورات المتحققة في حقل السوسيولوجيا، وهذا ما أعطى لهذه الاهتمامات أساسا علميا لا يمكن نكران أهميته في اجتراح الفهم بالقراءة باعتبارها ممارسة يومية بالمعنى الذي تحدث عنه دوسيرتو في كتابه (إبداع اليومي). والقراءة تفتح أمام المتعلم الشاب مسارات بالغة الجدة، بحيث يمكن أن يؤدي قطعها إلى اكتشاف مهاد جديدة، متنوعة في ثقافاتها ومتخيلاتها ورؤياتها للعالم. ولذلك فالقارئ الشاب عموما هو في حاجة إلى أن يكتشف العالم دون أية وساطة. ومن ضمن ما يمكن أن تزخر به المكتبات المدرسية من ذخائر ومتون، تبدو الأعمال المندرجة ضمن الخيال الأدبي كثيرة الأهمية بالنسبة للأطفال والشباب. وهذا ما نتعلمه من الأبحاث والدراسات التي تناولت نشاط القراءة سواء من زاوية سوسيولوجية أو في ضوء علم النفس بتياراته المتعددة. فهي، أي كتب الخيال الأدبي، تسهل آليات التواصل الداخلي والتي هي أساسية لاكتشاف الذات، كما تساعد على إخراج العواطف والأهواء من أحياز المبهم والغامض لتأخذ وجودا مُشَخّصًا أو محسوسا تعبر عنه تصرفات الشخصيات ومواقفها وعناصر الإيهام بالواقع. وبهذا المعنى فالقارئ لا يتعرف على احتياجاته وحسب، وإنما يموضع ذاته قياسا إلى التجارب التي يحتك بها ويحاورها عبر وساطة العملية الإبداعية. وأحسب أن المخاض الصعب الذي تكابد آلامه منظومة التربية والتكوين قد يجعل الأفق أكثر إيجابية إذا أخذ هذا الانشغال موقعه الأهم ضمن استراتيجيات الإصلاح. ذلك أن المدرسة بحاجة اليوم إلى أن تتجاوز أهدافها عتبة التعلمات الأساسية التي تسهر على تقديمها للمتعلمين. فإذا ظلت تراوح هذا المكان فإنها لن تتمكن أبدا من أن تفرز لنا جيلا من القراء. وحتى إذا حدث ذلك فإنه يظل مرتبطا بالتنشئة الاجتماعية التي تقدمها الأسرة بحيث يتغذى كل متعلم من الزاد الذي يحمله معه. فتربية الأطفال والشباب على ممارسة القراءة تتطلب اقتراح صيغ جديدة للعمل وإحداث تغييرات واضحة في الممارسات الصفية، وتجاوز كل ما يجعل المدرسة غير فاعلة اجتماعيا، وهذا يقتضي إعادة النظر في المفهوم التربوي التقليدي للقراءة والذي يرى إليه في ضوء ثلاثة محددات: مضامين البرنامج والنماذج النصية المكرسة والممارسات المعتمدة في القراءة والمقدمة على أساس أنها المعيار الأمثل للقراءة الجيدة. وإذا استحضرنا كون الإصلاح المهتدي بتجارب متحققة وبمنظورات وتصورات مطبقة ينبغي أن يستدل على عناصر التغيير الإيجابي التي يتقصد إلى إحداثها في شخصية المتعلم، أمكننا القول إن المكتبات المدرسية ليست ترفا زائدا يمكن غض الطرف عنه أو إرجاء التفكير فيه، وإنما هي في صلب التوجهات التي يمكن أن تؤسس لمدرسة جديدة. فالدور النبيل الذي تنهض به والجسر الذي تفتحه أمام الأطفال والشباب لاكتشاف عالم الكتاب وما يتجاور فيه من حيوات، يتطلب تمكينها من نفس جديد لا يناظره في الأهمية إلا ذلك النفس الذي تتطلع إليه المنظومة التربوية ككل. ويقتضي هذا تمكين كل محافلها من أساسيات التنشيط وما يتصل به من تقنيات وكفايات وقدرات حتى تستطيع وضع تجاربها وخبراتها في خدمة القراء الأطفال والشباب، وتوفر لهم ولوجا سلسا إلى القراءة باعتبارها ممارسة للاكتشاف والانكشاف.