تقريران مهمان، صدرا خلال هذا الشهر الذي نودعه، كشفا بالملموس كيف يتم «تكشيط» المغاربة بالعلالي. الأول أنجزته لجنة برلمانية حول «ثمن الدواء في المغرب»، اكتشفنا من خلاله أن أصحاب المختبرات وصانعي الأدوية والشركات العالمية ينهبون جيوب المرضى المغاربة ببيع أدويتهم بأثمان يمكن خفضها إلى حدود 80 في المائة، بمعنى أن شركات صناعة الأدوية تحتفظ لنفسها بهامش ربح «مريح» جدا بالمقارنة مع دول إفريقية كتونس، وأوربية كفرنسا. أما التقرير الثاني فقد كشف عنه وزير المالية الذي طلب من مكتب الدراسات الأمريكي «ماكنزي» إنجاز تقرير حول وضعية العقار والسكن في المغرب، فاكتشفنا أن هامش ربح شركات العقار تكون ما بين 15 و20 في المائة عندما يتعلق الأمر بالسكن الاقتصادي، فيما يتوسع هذا الهامش ليصبح في حدود 50 في المائة عندما يتعلق الأمر بالسكن المتوسط، بينما يقفز هامش الربح إلى نسبة 100 في المائة عندما يتعلق الأمر بالسكن الفاخر، أو ما يسمونه «اللوكس». ولهذا نفهم سبب تخلي أغلب كبار رجالات العقار عن مشاريع السكن الاقتصادي لإيواء «المزاليط» -بعد أن جمعوا على ظهورهم الملايير بفضل دعم الدولة لمشاريع السكن الاقتصادي، وهو الدعم الذي كان يذهب مباشرة إلى حسابات الشركات العقارية- وتسابقهم نحو المشاريع العقارية الفاخرة التي تستهدف «الألبة». إحدى شركات العقار ذهبت إلى حد استدعاء نجمات سلسلة «زوجات بيوت بائسات» الأمريكية لإعطاء مشروعها العقاري الراقي بعدا دوليا. وهكذا، فمن المنتظر أن تصل «بري» و«لينيت» إلى المغرب لافتتاح سلسلة فيلات راقية في الدارالبيضاء شيدتها الشركة العقارية لفئة خاصة من الناس. وقررت أن تقرن بين هذا المشروع وحي «ويستريا لان» الخيالي الذي تدور فيه أحداث السلسلة الأمريكية المثيرة للجدل والتي تحكي قصص نساء جارات تتنوع بين الخيانة والمكر والخديعة والحسد والدسائس. السلسلة تهدف -حسب مؤلفها «مارك شيري»- إلى تعرية المجتمع الأمريكي اليائس ونشر غسيله الوسخ. عندنا في المغرب، الغسيل الوسخ الوحيد الذي تم نشره حول العقار هو هذه الدراسة المهمة التي أنجزها مكتب «ماكنزي»، والتي أظهرت أن شركات العقار تحقق أرباحا يمكن أن تصل إلى 100 في المائة إذا ما توجهت إلى السكن الراقي. بعض شركات العقار المتخصصة في بناء الفنادق ودور الضيافة والمنتجعات السياحية يمكنها أن تفكر هي أيضا في استغلال وجود بطلات المسلسل الأمريكي «الجنس في المدينة» بمراكش، لاستغلال حضورهن في وصلات إشهارية للدعاية لمشاريعها السياحية، خصوصا تلك المتوقفة منذ الصيف الماضي، وعلى رأسها محطة السعيدية التي، منذ أن فتحها الصفريوي في وجه الزيارة الملكية الصيف الماضي، لم تعد إلى فتح أبوابها إلى اليوم. فالفندقان المتواجدان بالمحطة أغلقا بابيهما في وجه السياح. والسبب -حسب مدير الذراع العقاري الفاخر للمجموعة، هو الإصلاحات. هذه أول مرة نسمع فيها عن انطلاق الإصلاحات في منتجع لم تمر بعد ستة أشهر على افتتاحه. أما يخوت الناس «الألبة» التي ترسو فوق شاطئ المارينا فقد نسي الصفريوي إحداث محطة للتزود بالبنزين بالقرب منها، ولذلك تم اللجوء طيلة الصيف الماضي إلى خدمات المهربين الذين تكفلوا بجلب البنزين من الجارة الجزائر لضخها في محركات مراكب أثرياء المغرب. وربما بفضل استدعاء نجمات «الجنس في المدينة» إلى محطة السعيدية سيفكر هؤلاء البريطانيون الذين دفعوا 90 مليونا، ثمن «التسبيق»، للصفريوي عن فيلات لم يتوصلوا بها بعد، في سحب شكاياتهم التي وضعوها أمام محكمة وجدة. أما زوجات البيوت البائسات الحقيقيات فلسن أولئك الممثلات اللواتي سيحضرن إلى الدارالبيضاء لتشجيع «الألبة» على اقتناء فيلات وتخيل أنفسهم في حي «ويستريا لان» الأمريكي، بل هن أولئك النساء المغربيات اللواتي لم يستطعن إلى حدود اليوم الحصول على خمسين متر مربع في عمارات السكن الاقتصادي الشبيهة ببيوت النحل. هؤلاء النساء لا أحد يهتم لمعاناتهن. فأغلب الشركات العقارية منشغلة اليوم بالبحث عن الناس «الألبة» لبيعهم فيلات وقصورا فخمة مصممة وفق أحدث صيحات العقار العالمية. فقد اكتشف هؤلاء «المنهشون العقاريون» أن البورجوازية المغربية لديها قدرة شرائية كبيرة جدا. والدليل على ذلك أن الإسباني الذي باع أسهمه في «فاديسا» للصفريوي بعد أن أخذ أراضي الدولة بثمن رمزي وبنى مشروع «أنفا بلاص» على شاطئ عين الذياب بالدارالبيضاء، باع أغلب شقق مشروعه فوق «الكاغيط» بثمن يصل إلى 400 مليون للشقة. عندما تسأل صاحب شركة عقارية عن سبب إعراضه عن مشاريع السكن الاقتصادي، يقول لك «هاذ الشي ديال المزاليط ما بقا فيه ربح»، يعني أنه في السابق «داك الشي ديال المزاليط كان فيه الربح»، واليوم عندما تقلص هامش الربح في مشاريع السكن الاقتصادي أشاحوا بوجوههم عنه، وتوجهوا نحو السكن «اللوكس». وبسبب ذلك تراجع النشاط العقاري بحوالي 30 في المائة في الثلاثة أشهر الأولى من سنة 2009 مقارنة بالستة أشهر من السنة الماضية. تحدث الجميع عن غياب أو ضعف الروح الوطنية عند بعض لاعبي المنتخب الوطني، وإلى حدود اليوم لم يتحدث أحد عن الشيء نفسه بخصوص بعض المستثمرين العقاريين، فهم عندما يتخلون عن مشاريع السكن الاقتصادي، الذي يهم الأغلبية الساحقة من المغاربة، ويتوجهون نحو السكن الراقي، الذي يهم «كمشة» من المحظوظين والأغنياء الجدد، ينسون أنهم يهددون توزنا ماليا قدره 100 مليار درهم، هو بمثابة الكتلة المالية التي يحركها هذا السوق، أي القلب النابض للاقتصاد الوطني. يقول الاقتصاديون «عندما يسير قطاع البناء بشكل جيد، كل شيء يسير على نحو جيد». المشكلة أننا اليوم أمام تراجع واضح في قطاع البناء. وتخلي بعض الشركات العقارية الكبرى عن السكن الاقتصادي الموجه إلى الطبقات الشعبية والتوجه شبه الجماعي نحو السكن الفاخر الموجه إلى حفنة من الأغنياء، يعتبران بمثابة هروب إلى الأمام سيكلف الاقتصاد الوطني ثمنا باهظا. وفي قطاع الأدوية كما في قطاع العقار، نجد أن المواطن البسيط هو الذي يدفع الثمن ويساهم بالأموال المقتطعة من خبزه اليومي في رفاه الشركات الجشعة العاملة في الدواء والعقار. وعند أول أزمة، يتخلى الجميع عن هذا المواطن البسيط. شركات العقار تدير ظهرها له، والبنوك ترفع الفوائد التي تعطيها عن قروض السكن، ووزير السكنى توفيق احجيرة، الذي أوهمه بإمكانية امتلاك سكن في «تامسنة»، رماه بين مخالب نسور متخصصين في صيد الفرائس ووقفت تتفرج عليهم ينهشون لحمه. لذلك لا يجب أن نغتر بالحملات الدعائية باهظة الثمن التي تريد أن تعطي عن سوق العقار في المغرب وجها مشرقا، فالأزمة وصلت إلى العقار المغربي ووضعت حقائبها استعدادا للإقامة بيننا. ولذلك فلا بطلات «زوجات بيوت بائسات» ولا نجمات «الجنس في المدينة» سينجحن في التخفيف من حدة الأزمة. غريب هذا المغرب، بمجرد ما تشتهر سلسلة أو موضة أو صيحة عالمية يسارع إلى اجتذابها إلى المغرب، وفي تصوره أنها ستحل كل مشاكله. وجولة قصيرة اليوم حول شاطئ عين الذياب في الدارالبيضاء تعطيك صورة واضحة عن هذا العكر الذي يريد البعض «تجليخه» فوق وجه المدينة البشع. فعندما ترى أشجار النخيل المصطفة على طول الشاطئ ورجال الأمن الذين يتجولون فوق الدراجات الهوائية تعتقد نفسك لوهلة أنك في «ميامي بيتش»، لكن بمجرد ما تبتعد قليلا وترى بيوت الصفيح تقول مع نفسك «الرجوع الله» وتستفيق من الحلم الأمريكي، خصوصا عندما ترى رجال الأمن العاملين ضمن فرق الدراجات الهوائية بكورنيش عين الذياب لايزالون مجبرين، في بداية موسم الأمطار، على التجول بلباس الصيف، إلى درجة أنهم أصبحوا يختبئون تحت الأشجار وواجهات المحلات والمقاهي لاتقاء الأمطار والبرد القارس. لذلك فمثل هذه المشاريع العقارية الخيالية التي تتوجه إلى الطبقة «المرفحة» تعتبر، في مثل هذه الأزمنة المتأزمة والصعبة اقتصاديا، بمثابة استفزاز لمشاعر ملايين المغاربة الذين ينتمون إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة، والتي لازال بيت من خمسين مترا مربعا هو أقصى ما تحلم بامتلاكه. إذا كانت بعض شركات العقار قد ابتليت بجمع المال فعلى الأقل عليها أن تتعلم كيف تحترم مشاعر الناس. وإذا ابتليتم فاستتروا.