لم تعد الصين حاضرة بقوة في ساحة السياسة الدولية كما في السابق، ولم تعد تشارك في العمليات العسكرية والاستراتيجية، وصارت تنهج كثيرا سياسة عدم التدخل في الشؤون الدولية، إلا لتقديم المساعدة في طابعها الاجتماعي والاقتصادي، حيث إنها تدعم ما تسميه السلم والتفاوض لحل الدول مشاكلها الداخلية دون الحاجة إلى إحداث تغييرات جذرية على مستوى النظام الحاكم. والصين في سلوكها هذا، تبدي نفورا من التدخلات العسكرية الخارجية، كما تبدي موقفا راسخا بعدم التدخل في بعض القضايا، فهي تركز على شأنها الداخلي بدرجة كبيرة مقارنة بدول أخرى كأمريكا، التي تتدخل في السياسات الأوروبية والأفريقية والشرق أوسطية، وحتى في شأن دول الخليج العربي التي تربطها بها علاقات متينة. الكثير من الخبراء يتساءلون، اليوم، عن جدوى عدم تدخل الصين في الشأن الدولي، على غرار بقية الدول، حتى أن الكثير منهم يساوره الشك بخصوص ما تخطط له الصين، وحول ما تخفيه عن أنظار العالم، ودواعي انغماسها أكثر في شأنها الداخلي. فالصين تطورت وصار يحسب لها ألف حساب، حتى أن جلسات صارت تخصص لمناقشة مكانة الصين العالمية، وكذا التهديد الذي تشكله على الوجود الأمريكي. ولعل الكثيرين من رجال البيت الأبيض والكونغرس الأمريكي يساورهم الشك ويتوجسون خيفة من المارد الصيني الذي يهدد مراكز نفوذهم. وخلال تركيزها على شأنها الداخلي، عملت الصين على البحث عن نقط قوتها من أجل تحسينها وتطويرها، وكذا نقط ضعفها من أجل تجاوزها وتقويتها. فلم يعد العالم يسمع عن تدخلات الصين في دول العالم، كما تفعل أمريكاوروسيا ودول أخرى، بل انزوت في حدودها الجغرافية والترابية، حيث رفضت، مثلا، التدخل العسكري في سوريا، وعارضت الربيع العربي، ورفضت التدخل في قضية روهنجا بورما، إضافة إلى أحداث أخرى كثيرة ارتأت عدم التدخل فيها. وهنا يطرح التساؤل بقوة عن دعوى سلمية الصين، والعزلة الدولية والإقليمية التي فرضتها على نفسها طوعا. شأن داخلي يؤكد الخبراء أن اهتمام الصين وتركيزها على شأنها الداخلي جعلها تركز على تطوير إمكانياتها، وهو ما أسفر عن غزوها السوق المالية العالمية، وتوغلها في مصارف عالمية عدة، كالأبناك السويسرية، حيث وقعت اتفاق تعاون استراتيجي مع أكبر مصارف سويسرا. وعلى صعيد آخر، تدرك الصين حاجتها إلى الطاقة، ولذلك عملت على حماية أمن إمدادات النفط. ووفقا لأرقام وزارة الطاقة الأمريكية، أضحت الصين ثاني أكبر مستورد للنفط بعد الولاياتالمتحدة. كما أنها تتطلع بشكل متزايد إلى الخارج لمواجهة نقص الطاقة، إذ بات النفط يلعب الدور الأهم في مداولات السياسة الخارجية لدى بكين، فتأمين خطوط الشحن أصبح هدفا حاسما بالنسبة إليها لضمان عدم قطع إمدادات الطاقة. ويأتي أكثر من 50 في المائة من واردات النفط الصينية من الشرق الأوسط عبر المحيط الهندي. كما أن 80 في المائة من واردات النفط الصيني تمر قرب السواحل الجنوبية الهندية عبر مضيق مالاكا. وكنتاج طبيعي لذلك، سعت الصين إلى أن يكون لها وجود بحري قوي في المنطقة لضمان سلامة الحاملات الناقلة للنفط، خصوصا في ظل قلقها من احتمال قيام الولاياتالمتحدة والهند بعرقلة هذه الإمدادات الحيوية. السباق المحموم على النفط وكنتيجة لذلك، دخلت شركات النفط الصينية في سباق محموم لتأمين موارد الطاقة عالميا. إذ بدأت الصين الاستثمار بكثافة في التسعينيات. ويبدو أنها صارت الآن أكبر مستهلك للنفط السوداني والإيراني، إذ استثمرت بكثافة في هذا القطاع، وهي تستكشف الفرص في دول أخرى منتجة للنفط في العالم. دور المتفرج ورغم أنها اكتفت بلعب دور المتفرج على السياسة الدولية وعدم التدخل فيها، فإن الخبراء يرون أن الصين تدخلت فيها بشكل مباشر، وتعد لمرحلة ما بعد أن تصبح هي القوة العظمى وتخلف وراءها أمريكا وتتجاوزها بأشواط. إذ ستعمل على توجيه السياسة الدولية بما يتماشى ومصالحها، وما يخدم تطورها، وتسلقها مراتب العالمية، لتعيش عصر ما بعد أمريكا. ويرى المحللون أن الصين تعمل للتحضير لعصرها، عبر خلق علاقات اقتصادية واجتماعية وسياسة قوية مع مجموعة من الدول، بعيدا عن مشاكل هذه الدول الداخلية. ذلك أنها أقامت علاقات اقتصادية مع كبريات الدول، وصار يُحتفى بقادة الصين في مختلف أنحاء العالم. وتنظر العديد من البلدان الأوروبية إلى الصين باعتبارها مفتاح النمو المحلي الأقوى. كما يتطلع الزعماء الأفارقة إليها بوصفها شريك النمو الجديد الذي لا غنى عنه لبلدانهم، خاصة في مجالات تنمية البنية الأساسية والأعمال التجارية. كما يتطلع الإستراتيجيون وكبار رجال الأعمال أيضا في أمريكا اللاتينية الآن إلى الصين. وهكذا تقوت أواصر العلاقة «السلمية» بينها وبين دول كروسيا واليابان. كما أن الصين انخرطت في مسلسل المشاريع الكبرى في إطار البحث عن دور أكبر وممتد في التجارة العالمية والتمويل العالمي. وقد انضمت الصين إلى روسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا في إنشاء بنك التنمية الجديد، الذي سيتخذ من شنغهاي مقرا له. وسوف يساعد بنك الاستثمار هذا في البنية الأساسية الآسيوية الجديدة، وفي تمويل مشاريع البنية الأساسية في مختلف أنحاء المنطقة. خطط الصين في خلوتها التي أقامتها، عملت الصين على التحضير لقوة عسكرية، برية وبحرية وجوية، وهو ما يعتبره الخبراء مؤشرا قويا على أن الصين تخطط لشيء ما، فيما أشار آخرون إلى أنها تحضر نفسها لقيادة العالم، وإزاحة أمريكا من عرشها لتصير أقوى دولة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، خصوصا أنها كانت قد أطلقت في وقت سابق مخطط الرفع من ميزانيتها العسكرية، حيث رفعتها إلى ما يقارب 89 مليار أورو، وهي أكبر ميزانية خصصت لميزانية الدفاع في العالم، وراء أمريكا. فيما يقول خبراء إن حجم النفقات العسكرية الحقيقية لبكين يفوق بكثير الرقم المعلن عنه. ويفسر خبراء هذا الرفع من ميزانية الدفاع برغبة الصين في أن تصبح القوة العسكرية الأولى، والتي تمتلك الوسائل التي تتماشى وقيمة القوة الاقتصادية، فالصين تفكر في أن تصبح قوة على المستوى العالمي وأيضا على مستوى بناء قوة بحرية إقليمية، قادرة على أن تفرض نفسها على السواحل الصينية درءا لأي اقتحام أو تدخل أجنبي في شواطئها. فهي تريد أن تصبح قادرة على أن تردع أي تدخل، وعلى اتخاذ أي إجراء داخلي أو خارجي. وقد أصبحت الصين حاضرة بقوة في كل من أوربا وأفريقيا وآسيا، والخبراء يتساءلون عما يمكن أن يسفر عنه هذا الحضور في القارات الثلاث. ويرى البعض أن الصين بدأت منذ عشرات السنين خلق سلسلة من المستوطنات البحرية، دون الإفصاح عما ستفعله بهذه القوة البرية والبحرية والعسكرية، خصوصا أن جيشها يضم مليونا و250 ألف جندي، وهو ما يمثل أكبر جيش في العالم. ويعتبر البعض أن تقوية جانبها العسكري هو إعلان غير مباشر عن أن الصين مستعدة لتصبح رئيسة العالم وقائدته، التي ستتحكم في السياسة الدولية، باعتبارها الفاعل السياسي والعسكري والاقتصادي والاستراتيجي، الذي لا محيد عنه في تقرير مصير العالم. لماذا عارضت الصين الربيع العربي؟ يرجع الباحثون سبب عدم تدخل الصين في الربيع العربي إلى كون هذا الأخير يعارض مصلحتها، ويهدد استراتيجيتها السياسية، حيث خلق الربيع العربي مراكز جديدة لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعلى إثر ذلك وجدت الصين نفسها مضطرة إلى تغيير المواقف والبحث عن فرص جديدة، خصوصا أن تداعيات هذه التغييرات لا زالت نتائجها مجهولة إلى الآن. ويرى المحللون أن الوضع الجديد يتطلب من الصين أن تغير استراتيجيتها في الشرق الأوسط لتواجه هذا الوضع. وبوصفها عضوا دائما في مجلس الأمن الدولي، يتعين على الصين أن تتصرف كقوة مسؤولة للمساعدة في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ولكنها في الواقع، حسب ما يرى الخبراء، لا تبذل مجهودا كبيرا في هذا الاتجاه، بقدر ما تبذل جهدا في حماية مصالحها والحفاظ عليها. ولعل السياسة الصينية الخارجية حيال الربيع العربي ظلت، حسب الخبراء، مدفوعة في المقام الأول بالبحث عن الأمن في مجال الطاقة، والرغبة في زيادة أسواقها وفرص الاستثمار في الخارج. ذلك أن جوهر السياسة الصينية يتجسد في الحفاظ على بيئة دولية مستقرة لتسهيل استمرار الإصلاح والتنمية في الوطن. وبالتالي، فالسياسة الصينية في منطقة الشرق الأوسط تسعى إلى دفع العلاقات الاقتصادية في مجال الطاقة، لذلك فهي تؤيد التعامل مع النزاعات، مثل أحداث الربيع العربي، في مناخ من التعاون والتفاوض وإدارة الصراع، خصوصا أن تقارير إعلامية كانت قد كشفت أن الاستثمارات الصينية في المنطقة تصل إلى مئات المليارات من الدولارات الأمريكية. رسائل سياسية وعسكرية وبخصوص الملف السوري، يلاحظ أن موقف روسيا كان عاملا رئيسيا في حسابات الصين ومصالحها. فبكين تسعى إلى تقليل تكاليف أعمالها، وتعتبر كونها معزولة في مجلس الأمن هو شيء ينبغي تجنبه تماما. على الرغم من أنه غالبا ما تمتنع عن التصويت على قرارات مجلس الأمن في القضايا التي لا توافق عليها، فهي أقل استعدادا لاستخدام الفيتو بكثير إذا أيدت روسيا القرار. ففي أكتوبر من سنة 2011 وفبراير من سنة 2012، رفعت روسياوالصين فيتو مشتركا ضد قرار مجلس الأمن الدولي فرض عقوبات على سوريا. وقد أثار هذا الفيتو المزدوج على القرارات، التي كانت قد حصلت على دعم الجامعة العربية والولاياتالمتحدة وأوربا، انتقادات قوية من قبل الدول في جميع أنحاء العالم. وفي عام 2011 كانت الصين قد امتنعت عن التصويت على قرار الأممالمتحدة بشأن ليبيا، وهو ما اعتبره البعض دليلا على قلق بكين من فقدان النفوذ في الشرق الأوسط. كما أنها قررت عدم وضع علاقتها مع روسيا في مقام الخطر، حفاظا على دعم موسكو، التي قد تحتاجها بكين في المستقبل. وقد استفادت الصين من أحداث الربيع العربي، على مستوى إظهار عضلاتها العسكرية، مستغلة تدخلها في عملية إنقاذ مدنية في ليبيا، حيث تم نقل معظم المدنيين من قبل السفن التجارية أو الطائرات المستأجرة من قبل الدبلوماسيين الصينيين والشركات الصينية. وقتها أدرك العالم السياسة الأمنية التي نهجتها الصين، وقوة أسطولها العسكري بكل مكوناته. صداقات دولية إن عدم تدخل بكين في السياسات الدولية الداخلية للدول يدخل في إطار حماية مصالحها أولا وأخيرا، فحين عارضت الربيع العربي كان هدفها هو حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة، خصوصا أن لها علاقة تجارية مهمة، فضلا عن عدم بحثها عن أطراف صراع جديدة، إذ هي تبحث أكثر عن «أصدقاء» في مختلف أقطار العالم. فضلا عن ذلك، تبدو بكين حريصة على الوقوف إلى جانب موسكو اليوم، وعدم إظهارها في عزلة دولية لضمان وقفة روسية مماثلة إلى جانبها غدا في قضايا تمسها بشكل مباشر كنزاعاتها المتزايدة مع جيرانها. ويبدو أن تمسك بكين بمواقفها تجاه الربيع العربي يدخل في إطار سياستها الرامية إلى بحثها عن حلفاء منبهرين بوضعها الدولي الذي خططت له، تمهيدا لتصير القوة العظمى اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وعسكريا واستراتيجيا.