لا يزال أحد معطلي تازة يردد إلى اليوم نفس الشعارات التي أطلقها غاضبو حي الكوشة هناك في تازة العليا، على مقربة من مقر عمالة الإقليم، رغم أن تازة أحيت ذكرى أحداثها في يناير الماضي. يبدو هذا الشاب، الذي كان ينفث دخان سيجارته الرخيصة عاليا، والذي أضحى يعاني من اضطرابات نفسية، كأن الزمن التازي توقف عنده بمحطة الكوشة، وما خلفته من أحداث ومعتقلين وضحايا. أحداث انطلقت باحتجاجات عادية حول ارتفاع أثمنة الماء والكهرباء، قبل أن تتطور إلى حرق سيارة للأمن، واعتصام بداخل مقر العمالة، مع ما رافق ذلك من اعتقالات طالت عددا من شباب تازة، الذي حول الاحتجاج حول الماء والكهرباء إلى احتجاج على التهميش، الذي تعانيه مدينة وصفها أحد الفرنسيين الذين كانوا يعدون تقارير عن مدن مغربية قبل فرض الحماية في 2012 ب»جنة الله في أرضه». اليوم، ورغم أن أحداث حي الكوشة بتازة العليا أضحت مجرد ذكرى من الماضي، فهي لا تزال تقض مضجع السكان، خصوصا أن أسباب اندلاعها لا تزال واردة. فتازة، المدينة النائمة عند سفح جبل جعلها أرض المغارات بامتياز، وإن كانت تعرف فقط بمغارة «فريواطو»، التي تحكى عنها الكثير من القصص، ويقال إن عمقها لا يزال مجهولا إلى الآن، لا تزال تعاني من غياب تنمية حقيقية، حيث أغلقت معاملها، ونجح أثرياء العقار في تحويل جل فضاءاتها الخضراء إلى إسمنت مسلح. لذلك يكتفي سكانها بفلاحة بسيطة، وتجارة لا تفي بوعدها. أما السياحة، التي كان يمكن أن تجعلها قبلة حقيقية، فلا تزال حلما يراود قبائل غياتة والبرانس والتسول وبني وارين. استقبلتنا تازة بشمسها الحارقة، على الرغم من أننا في فصل الربيع. ويقول مرافقي إن أعلى معدلات درجة حرارة تازة صيفا قد تقارب الخمسين. وقتها يمكن أن تكتشف مدينة أخرى تغلق أبوابها في انتظار أن تهب نسائم الليل، حيث يخرج السكان لاستنشاق هوائها المنبعث من أشجار لا تزال تحافظ على تواجدها، رغم الهجوم الكاسح للإسمنت المسلح. وهي خصلة تحسب لأهل تازة أن حافظوا للمدينة على خضرتها. نصعد ثم ننزل، ونكتشف أن جل أزقة تازة مجرد منحدرات تحتاج منا بعض الصبر والجلد، خصوصا تحت حرارة شمس لم نستعد لها بما يكفي. منحدرات، يقول مرافقي إنها هي التي تفصل تازة العليا عن تازة السفلى، وكانت من قبل عبارة عن ممر من التراب يقطعه السكان نزولا وصعودا، قبل أن يتم وضع أدراج عالية قيل لنا إنها تقارب الثلاثمئة درج تفصل التازتين انطلاقا من باب الجمعة. في الطريق إلى تازة العليا نصعد الأدراج لاكتشاف هذه التازة العليا. أما السفلى، فهي المدينةالجديدة التي تركناها خلف ظهورنا، والتي أصبحت لها عماراتها الشاهقة، ومقاهيها ذات الطراز العالي، وشوراعها الفسيحة، حيث علق أحد التازيين على أن المدينة ليست في حاجة فقط إلى هذه الشوارع وهذه الإنارة الخافتة التي تجعل تازة مدينة الرومانسيين، ولكننا في حاجة إلى معامل ومصانع واستثمارات تمتص جموع المعطلين، الذين لم يجدوا شغلا فحولوا غضبهم إلى أحداث شغب هزت تازة. بداخل الأسوار نكتشف مدينة تشبه فاس أو مراكش أو آزمور أو سلا. أزقة ضيقة، وحوانيت مصطفة لبيع الفواكه الجافة أو الملابس التقليدية. هنا توجد ساحة المشور، حيث قصر «بوحمارة»، الذي سكن تازة وجعلها من المدن المغضوب عليها، يقول أحد التازيين، الذي لم يخف حنقه مما حدث ويحدث لمدينة ضاربة في القدم. هنا يوجد ضريح سيدي عزوز، «مول تازة ودراع اللوز»، كما يقول المنشدون الصوفيون وهم يتغنون بمعالم المدينة. وهنا المسجد الأعظم، حيث توجد أشهر وأكبر ثريا زينت المسجد. الثريا التي قيل إن مسلمي تازة صنعوها من نحاس أحد نواقيس الكنيسة المسيحية قبل أن يتم إهداؤها لهذا المسجد على عهد السلطان المريني المولى يوسف. نقرأ بخط كوفي جميل عن هذه المعلمة التي تعرف بها تازة: يا ناظرا في جمالي حقق النظر ومتع الطرف في حسني الذي بهرا أنا الثريا التي بها تازا افتخرت على البلاد فما مثلي الزمان يرا. نتأمل المكان، وهذه الثريا التي يصل وزرنها 32 قنطارا من النحاس الخالص، ونطرح السؤال: هل يجب أن تظل تازة مجرد مدينة تحكي عن ماضيها التليد، دون أن تعيش حاضرها كما يجب؟ نقفل عائدين. ويقودنا جمال، التازي الجميل العارف بخبايا المكان، مرافقنا في هذه الرحلة، إلى حيث يوجد باب الريح. نعم في تازة العليا يوجد باب للريح. ولا غرابة أن نشعر بهبة ريح تضرب وجوهنا بعد أن كنا قبل قليل في جو حار ساخن ونحن بداخل أسوار المدينة حيث عبق التاريخ، ورائحة المدن العتيقة التي لا تزال لم تسثتمر كل مخزونها السياحي. جمال، اللاعب السابق في فريق الكرة لمدينة تازة، والذي لا يزال يحمل معه هم الرياضة في مدينة المغارات، لا يتوقف عن الحديث عن رياضات انقرضت وكانت لتازة فيها صولات وجولات. يحدثنا عن الريكبي، وعن كرة السلة وكرة القدم والسباحة، التي تفخر تازة برقمين قياسين إفريقين كانا من نصيب شباب المدينة. ويتوقف مليا عند قاعات مغطاة لكنها مغلقة لأسباب يعرفها مسؤولو الجماعة الحضرية ووزارة الشبيبة والرياضة، دون أن ينسى أن لتازة أسماءها من الرياضيين أمثال البياز، والحضريوي، والزايري، وتاعرابت. غير أنها لا تصنف اليوم مدينة رياضية. ويطرح السؤال المستفز: لماذا كل هذا الظلم الذي رافق تازة، كما رافق عددا من المدن العتيقة التي لم تنل حظها الكافي من التنمية؟ لا نملك جوابا. لكن أحاديث أهل تازة تتوقف بين الفينة والأخرى عن ظلم جاء من بعض «التوازة»، الذين كان لهم حضور وازن في الجيش المغربي، والذين ساهم بعضهم في بعض الأحداث السياسية، التي هزت مغرب الحسن الثاني. لذلك كان لا بد لهذه المدينة الوديعة أن تؤدي ضريبة خطأ أو جرم لم ترتكبه. والحصيلة أن تازة تنتظر متى يرفع عنها ظلم السنوات التي مرت. أحداث الكوشة في الذاكرة شوارع فسيحة ومقاه من طراز عال. يشرح مرافقي أن هذا التحول وقع بعد أن دخل بعض المستثمرين عالم العقار وهم قادمون من بلاد المهجر، خصوصا من أوروبا الشمالية حيث يوجد التازيون أكثر مقارنة بالموجودين في بعض دول أوروبا الغربية. غيرأن لهذه الطفرة في العقار التازي حكايات تروى هنا وهناك. فبعد أن نجح هذا اللوبي في التحكم في المجالس المنتخبة، سارع إلى توسيع المدار الحضري لتازة. ومن ثم سارع أصحاب الأراضي المجاورة إلى التخلص من ممتلكاتهم خوفا من أن تطالها يد «الدولة». لذلك يحكي التازيون كيف أن بعض الأراضي الفلاحية، التي تحولت في رمشة عين إلى عمارات وفيلات، بيعت بأثمة بخسة. وهذا سبب من بين أسباب أخرى أخرجت المدينة عن صمتها، وصنعت لنفسها ربيعا، أو لنقل شتاء خاصا، حينما انتفضت في يناير من سنة 2012 ضد التهميش والحكرة، وضد المستفيدين من هذا الوضع الذي يجعل تازة خارج الحساب. يحكي أحد شبان المدينة بخصوص أحداث حي الكوشة في 2012، التي لا تزال مسبباتها واردة ونحن في 2015، كيف قرر معطلو المدينة اقتحام مقر عمالة تازة احتجاجا على إقصائهم من فرص الشغل. وهو الاعتصام الذي لم تتعامل معه سلطات المدينة بما يلزم من هدوء وحكمة. والحصيلة أن القوات العمومية بالغت في الضرب والتنكيل، قبل أن تباشر اعتقالاتها التي طالت أعدادا كبيرة. والمثير، كما سيذكر تقرير للجمعية المغربية لحقوق الإنسان أنجزته لجنة لتقصي الحقائق، أن يتزامن هذا الاعتصام مع وقفات احتجاجية قام بها سكان حي الكوشة ضد الارتفاع الصاروخي لفاتورات الماء والكهرباء. وبدلا أن يتم تطويق الوقفة والاستجابة لمطلب اجتماعي بسيط، سترفع القوات العمومية درجة الاحتقان، والحصيلة هي حرق سيارة أمن وعدد من العجلات المطاطية. فيما كانت الحجارة والزجاجات الحارقة تمطر الحي الإداري المجاور لعمالة تازة حيث اندلعت الأحداث. اليوم يحكي التازيون عن أيام حي الكوشة، ويأسفون كيف أن السلطات والمجالس المنتخبة لم تنجح في نزع فتيل الغضب، إذ كل ما أقدمت عليه هو سلسلة من الاعتقالات أسفرت عن أحكام سجنية في حق شباب تازة ومعطليها. لكنهم لا يفوتون الفرصة لكي يتحدثوا عن أن أسباب ما حدث في 2012 لا تزال واردة. أسباب لخصها تقرير الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وقتها في الإغلاق اللاقانوني لمجموعة من المؤسسات الإنتاجية، على قلتها، كرانطيكس، وشركة سلكس، وشركة الفردوس، المتخصصة في قطاع النسيج. إضافة إلى عدم احترام المؤسسات الإنتاجية لمقتضيات مدونة الشغل. وهي الممارسات التي كانت موضوع احتجاجات عمال وعاملات الحي الصناعي الوحيد بالمدينة، والتي قوبلت بالتجاهل من طرف السلطات المحلية المفترض فيها التدخل من أجل فرض احترام قانون الشغل، وحماية حقوق العمال والعاملات. كما تمثلت أيضا في الاحتجاجات المتكررة لسكان منطقة «أكنول» على خلفية تردي الخدمات الصحية بسبب تحويل المستشفى المحلي إلى مجرد مركز صحي، وفي الوضعية المتردية بالكلية متعددة التخصصات، والاحتقان الذي عاشته بسبب غياب الحد الأدنى للاشتغال والتحصيل العلمي، حيث بلغ عدد المسجلين بالكلية في 2012، مثلا، إلى أكثر من 9000 طالب وطالبة، مع العلم أن الطاقة الاستيعابية تقدر بحوالي 3000 طالب وطالبة فقط. ناهيك عن غياب الحي والمطعم الجامعيين. ولهذا استقطبت أحداث حي الكوشة عددا من طلبة هذه الكلية الغاضبين.
بوحمارة مر من هنا لتازة العليا أكثر من باب وأكثر من معلمة تستحق أن تكون قبلة للسياح. فهناك باب الريح، وضريح سيدي عزوز، والمسجد الأعظم حيث الثريا ذات الصيت العالمي، وكذا درب كناوة، الذي يصر محاوري على أنه لا يزال شاهدا على أن ظاهرة كناوة انطلقت من هنا، وليس من مدن الجنوب والصويرة تحديدا. وللتأكيد على هذا الأمر يستشهد بما يفتتح به كناوة ليلتهم وهم يرددون: «من تازة وأنا نسال على دار سيادي..كالو لي في وزان مولاي التهامي». معالم تازة هي أيضا المشور حيث كان قصر «السلطان» الجيلالي الروكي الزرهوني، الملقب ب»بوحمارة»، الذي كان يقدم نفسه لقبائل غياتة على أنه المولى امحمد، كي يصبح أميرا على مملكة على محور تازة سلوان. هنا بين قبائل غياتة وبني وارين اختار السلطان الزرهوني أن يؤسس لمملكته. فحينما فر من مدينة مراكش بعد أن قال إنه ابن السلطان المولى الحسن، وإن أخاه المولى عبد العزيز لا يستحق الحكم لصغر سنه، وإن الحاجب با احماد اختاره لكي يجعله مجرد سلطان بدون سلطة، لم يجد من مقر يؤويه غير تازة. ولم يكن اختيار «بوحمارة» لهذا المكان صدفة، فالرجل، الذي حكم المنطقة سبع سنوات، كان يعرف أن تازة هي الحد الفاصل بين شرق المغرب وغربه، وكان يدرك أن المسيحيين، الذين كانوا يستعدون وقتها لبسط نفوذهم على مغرب ما بعد حكم المولى عبد العزيز، لن يجدوا غير طريق تازة لكي ينفذوا إلى حيث يريدون. هنا بتازة العليا بنى «بوحمارة» قصره الفسيح، ووزع على سكان المدينة، بتجارها وحرفييها، السلاح. ولم يكن غريبا أن يتأبط تاجر أو حرفي سلاحه وهو يمارس مهنته أمام زبنائه، حتى إذا جاءه خبر عدو قادم لا يتأخر في الخروج للدفاع عن حرمة تازة، خصوصا أن «بوحمارة» نجح في استمالة قبائل المنطقة بالاعتماد على فكر الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن شرف أهل تازة. بالإضافة إلى أنه وضع لنفسه طريقة صوفية سماها «النورانية»، مستمدة من الطريقة الشاذلية، وتتضمن دعوة الناس إلى طاعة الشيخ. وقد اختار»بوحمارة» تازة لكونها منطقة وسط بين مناطق النفوذ العزيزي والأروبيين، باعتبارها موقعا استراتيجيا للربط بين الشرق والغرب. بالإضافة إلى كراهية سكانها للأجنبي، وصلتها الوثيقة بمقاومة الأمير عبد القادر. كما أن جل المنطقة التي خضعت لحكم «بوحمارة» كانت ضمن مناطق السيبة خلال نهاية عصر الحسن الأول بحكم انفتاحهاعلى كل التطورات الخارجية، وقربها من الحدود وتهريب الأسلحة والسلع دون إغفال امتزاج الإثنيات وصعوبة التضاريس. كان لا بد للسلطان «بوحمارة» أن يستثمر كل هذه المعطيات لتثبيت حكمه، قبل أن يتبين أنه لم يحقق الأهداف التي قامت عليها حركته، وهي بالأساس محاربة المنكر، والقضاء على الوجود الأجنبي. لذلك بدأت شعبيته في التآكل، خاصة بعد تفويت استغلال منجم الحديد للإسبان، وظهور الجهاد بزعامة الشريف أمزيان. قبل أن تعلن نهاية حركة «بوحمارة» حينما حاول احتلال مدينة فاس، وقد تزامن ذلك مع وصول جيش المولى عبد الحفيظ، الذي ألقى عليه القبض في 21غشت 1909، ووضعه في قفص، وعرضه على العموم في الساحة الكبرى بفاس. إنها نفس الحكاية التي يرددها اليوم أهل تازة عن الزرهوني «بوحمارة». اليوم لم يتبق من قصر «بوحمارة» في الجهة الشرقية لسور تازة العليا المحيط بها من كل مكان، والذي كان يغلق أبوابه مع صلاة كل مغرب، غير بعض من أطلاله. لذلك تحول إلى مقر لجمعية المقاومين وجيش التحرير، إلى جانب مدرسة تعنى بالإنشاد والسماع الصوفي. نقفل عائدين من قصر «بوحمارة» أو ما تبقى منه، ونطرح نفس السؤال الاستنكاري المستفز: ألا تؤدي اليوم تازة ضريبة جزء من تاريخ مغرب الاضطرابات، الذي بحث فيه الزرهوني «بوحمارة» عن موطئ قدم ليكون له نصيب من كعكعة السلطان المولى الحسن؟ لا يخفي بعض أهل تازة هذا الطرح. ويضيفون أن هذا التهميش والحكرة تقويا حينما لعب بعض المنتمين للجيش المغربي، من أصول تازية، أدوارا انقلابية ضد نظام حكم الحسن الثاني. لذلك تضمن تقرير لجنة تقصي الحقائق، الذي أعدته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حول أحداث حي الكوشة في 2012، شهادة معطلين وصفهم أحد رجال السلطة في عز الاحتقان بأنهم «أبناء الجنرال الدموي محمد أوفقير». تازة هي «جنة الله في أرضه»، كما سماها الفرنسيون قبل أن يطلقوا عليها بعد ذلك لقب «سويسرا الصغيرة».. وتازة التي يرعاها وليها سيدي عزوز..وتازة التي تفخر بثرياها الفريدة التي صنعت من النحاس وتزن 32 قنطارا. لكنها أيضا مدينة مهمشة تؤدي اليوم ثمن أخطاء الماضي. لذلك يتمنى التازيون أن تصلها عناية المسؤولين، الذين لم يجدوا ما يقدموه للعاهل المغربي حينما زار المدينة، التي خرجت عن بكرة أبيها لاستقباله، غير مشروع توسيع سجنها المدني.