منذ اندلاع الصراعات الأهلية والطائفية في العديد من البلدان العربية، ومن ضمنها سوريا وليبيا والعراق واليمن، وكذا تنامي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام («داعش»)، كثر الكلام حول حاجة العالم العربي إلى دول قوية تؤمن الاستقرار والأمن لمجتمعاتها. والعديد من السياسيين العرب يعتبرون أن الأوضاع قبل احتجاجات «الربيع العربي» كانت أفضل مما أصبحت عليه بعد تلك الاحتجاجات، حيث كانت الدولة، رغم فسادها وسلطويتها، تستطيع أن تؤمن المجتمعات من الانزلاق في دوامة العنف الأهلي أو الطائفي، وأن تحافظ على الأوضاع كما هي عليه. صحيح أن هذه الدولة حافظت على استقرار نسبي، لكن أساسه كان القمع والترهيب والفساد؛ وكانت هذه الدولة عاجزة عن مواكبة التغيير الاجتماعي وعن الاستجابة والتفاعل الإيجابي مع رغبة الأجيال الصاعدة في العيش ليس في ظروف اقتصادية أفضل فحسب، بل في منظومة إدارية ومحيط اجتماعي لا تنتهك فيهما حقوقهم المشروعة، وفي المقابل تحترم فيهما كرامتهم وتتاح لهم الفرص للرقي الاجتماعي. وكثيرا ما توضع المجتمعات العربية أمام الاختيار التالي: فإما أن تحافظ على الأمن والاستقرار مقابل قبولها بالفساد والسلطوية والركود الاقتصادي؛ وإما أن تعيش في الفتنة والنزاعات الأهلية والطائفية إذا انتفضت ضد الحاكم أملا في تغيير ملموس على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وفي الواقع، الاختيار ليس بهذه البساطة: بين الاستقرار والأمن، من جهة، والفتنة والحرب الطائفية، من جهة أخرى، لأن هناك اختيارا ثالثا متاحا للشعوب العربية ألا وهو التغيير الديمقراطي الحقيقي الذي يحافظ على الاستقرار، حيث إن التغيير لا يتعارض مع الاستقرار، بل لا وجود لاستقرار على المديين المتوسط والبعيد دون تغيير. وقوة الدولة الحقيقية لا تكمن في عدد عناصر شرطتها أو جيشها أو أجهزتها المخابراتية وأسلحتها، وإنما تكمن في مواطنيها وتماسكهم وإيمانهم بتمثيلية الدولة لهم ولانتظاراتهم، وقدرتها على توفير نظام إداري وقضائي عادل يؤمن لهم حقوقهم ويحميها من الانتهاكات، أيا كانت. والدولة القوية هي التي تطور التربية والتكوين لمواطنيها، وتضمن لهم الولوج إلى خدمات عمومية أساسية من صحة وعدالة، وتخلق الظروف الملائمة لتفجير طاقاتهم وتطوير قدراتهم الإبداعية. بعبارة أخرى، إن قوة الدولة تتجلى في مواطنيها المنكبِّين على بناء المستقبل المشترك، وهي قوة أخلاقية واجتماعية تحصن المجتمع من الانزلاق في دوامة الكراهية والعنف الأهلي والطائفي. وبالطبع، هذا لا يعني أن الدولة يمكن أن تستغني عن «احتكار وسائل العنف المشروع» حسب عبارة المفكر الألماني ماكس فيبير، لأن التنظيم المعاصر للمجتمعات لم يبدع أشكالا أخرى للحفاظ على حد أدنى من الأمن الضروري للتعايش السلمي بين الأفراد والجماعات والطوائف. لكن، لا يمكن للدولة أن تقتصر على دورها الأمني، بل يجب أن تمثل الإرادة الشعبية في تنوعها، لأن جزءا كبيرا من مشروعيتها في الأزمنة الحديثة يكمن في قدرتها على أن تواكب التغيير الاجتماعي، وهذه من نقط الفصل بين الأنظمة السلطوية والديمقراطية.