لا يسع المتأمل في خريطة العالم العربي إلا وضع يده على قلبه خوفا مما يمكن أن تؤول إليه أوضاع مختلف دوله، فبعضها غارق في النزاعات الطائفية، وبعضها تمزقه الحروب الأهلية، وأغلبها يرزح تحت نيران أنظمة استبدادية، وبعضها يعاني من ويلات الاحتلال، وبعضها منهمك في حرب طاحنة مع دولة «شقيقة» حول مشكل حدودي أو رد فعل على تصريح سياسي أو ما شابه ذلك من الأسباب التي لا تستحق أن تخاض من أجلها حرب تأتي على الأخضر واليابس وتجعل البلدين فريسة لقوى الهيمنة العالمية. وكل ما سبق جعل عالمنا العربي مليئا ببؤر التوتر وأسخنَ بقعة على سطح الأرض، رغم أنها أكثر المناطق تجانسا، حيث تجمع بين شعوبها روابط التاريخ وتضاريس الجغرافيا وآصرة العقيدة ووحدة اللغة والحضارة. تذكرت هذا الواقع وأنا أشارك في لقاءات عربية، ضمت نخبة من أهل الرأي والفكر. كان المفترض أن نناقش خلالها آفاق الإصلاح في العالم العربي والسياسات الحديثة والمجتمعات التقليدية وإمكانيات الحوار بين القوى المختلفة، فكريا وسياسيا، ومصير التحالفات القائمة.. كان طموحنا كبيرا وأملنا واسعا، وكان الحوار ثريا والمتحاورون متهممين، وكانت مردودية اللقاءات غنية بالاقتراحات والمبادرات والملاحظات التي يمكن أن تطور الفعل السياسي العربي وأداء الفاعلين. ولكن، ونحن في غمرة هذا النقاش، الذي يستشرف هذه الآفاق المشرقة، وجدنا أنفسنا أمام وقائع ضاغطة وإكراهات محبطة وحقائق مكبلة لأية انطلاقة عربية. عالمنا العربي أكثر المناطق أمية، وأقلها قراءة، وأشدها ركودا. عالمنا العربي مثل بقعة زيت حارقة تنتشر في كل الاتجاهات. في اليمن، حرب أهلية طاحنة تحصد يوميا أرواحا بريئة وتهدد بتفكك هذا البلد الذي لم يضمد بعد جراح التجزئة التي عاناها منذ عقود من الزمن. والأخطر أن هذه الحرب قد تتوسع رقعتها في أي لحظة بسبب التقاطب الإقليمي. ولا يمكن لأحد أن يستهين بما سيترتب عن أي خلاف إيراني سعودي في المنطقة. وفي السودان، خطر آخر ينذر بتفكك هذا البلد الذي لطالما رددنا منذ صغرنا بأن ثروته الزراعية كافية لإطعام كل العرب! السودان اليوم مهدد بانفصال جنوبه، مع ما قد يترتب عن ذلك من حرب دائمة في تلك المنطقة. وهذا أخطر ما يتهدد الكيانات القطرية العربية، أي التفتت والانقسام المفضي إلى نزاعات أبدية بين الشمال والجنوب. وفي العراق، كيانات طائفية وحرب أهلية واحتلال أمريكي وعنف وعنف مضاد وثروات تنهب وحضارة تشوه وآثار تسرق. آه على العراق. أما لبنان فهي عاجزة عن تدبير حوار وطني يفرز دولة قوية، وفائضُ الحرية داخلها لم يساهم في دمقرطة الدولة والمجتمع بعيدا عن الكوطا الطائفية، والخطر الإسرائيلي يتهددها في كل لحظة وحين. هذا ناهيك عن حروب الكبار التي تخاض على هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة جدا، والتي هدفها ضرب المقاومة والممانعة وإخضاع هذا البلد لمسلسل التطبيع مع هذا الكيان الغاصب. وفي فلسطين، انقسام داخلي بلغ حد الاقتتال بين الإخوة فاسحين المجال للعدو الصهيوني لتهويد القدس وحصار غزة والزيادة في عدد المستوطنات وانتهاك المقدسات وتدنيسها. وبطبيعة الحال، لم تغب مصر المحروسة عن الاهتمام، وهي التي تعيش إرهاصات التوريث وتغلق حدودها في وجوه أهل فلسطين وتدفع ثمن سياسات فقرت الفئات الشعبية والنخب، حيث لا يستطيع الأستاذ الجامعي والطبيب المتخصص ومن على شاكلتيهما امتلاك مسكن. ولن أحدثكم عن المغرب لأنكم أهله وأدرى بشعابه. أما الانتخابات العربية فقد سارت بذكر فضائحها الركبان، حيث تجاوزت التزوير والتلاعب في النتائج إلى اختراع شكل جديد في الحكم هو النظام الرئاسي الوراثي؟! ففي تونس، مثلا، انتهت الانتخابات بمنح الرئيس الكبير ولاية خامسة، والعقيد الثائر قاعد في خيمته الرئاسية بدون منافس، والقائمة طويلة. أما دول الخليج فما زالت مكبلة بثقل العادات والتقاليد التي فاق تأثيرها النصوص الدينية، ولذلك فرغم التحديث العمراني ما زالت العقليات السائدة والفئات المتنفذة محافظة تعارض كل مسار إصلاحي أو مبادرة تحديثية. وتضاف إلى أزمات الداخل، بطبيعة الحال، تربصات الخارج الطامع في ثروات المنطقة والطامح إلى لعب دور رئيسي فيها. وهذا ما يجعل هذه البلاد في خطر، إن لم نقل في مهب الريح. كنا نقلل من هول هذه الكوارث ببعض الطرائف ونخفف من هول هذه الصدمات ببعض النوادر كخطابات القذافي وحكايات بعض الزعماء وفتاوى بعض «علماء آخر الزمان» .. كنا نتذكر الزعيم الثائر القذافي الذي بإمكانه طرد عشرات الآلاف من العمال العرب بجرة قلم لأن مقالا صحفيا نشر في جريدة مستقلة لم يعجبه، أو تصريحا لشخصية معارضة لم يرقه. وكنا نتأسف على هذه الحالة التي أوصلنا إليها أمثال هؤلاء الحكام. كنت أخلص دائما، من خلال نقاشاتنا الهامشية، إلى أن هذه الشعوب الصابرة تستحق وضعا أفضل وهي التي ضحت وقاومت وبذلت وتمنت بدون جدوى. كنت أخلص دائما إلى أن التراخي في حل هذه المشاكل ينذر بتفاقمها، وأن فشل جهود المصالحة العربية مؤشر آخر على عدم جدوى هذه المؤسسات القومية، وفي مقدمتها الجامعة العربية. كنت أنظر إلى تزايد الدورين التركي والإيراني في المنطقة، فأتساءل عن أدوار مصر والمغرب والسعودية وغيرها، وهي التي كانت إلى أمس قريب محرك المبادرات العربية. كنت أخلص دائما إلى أن مأساتنا تتمثل في هذه الأنظمة المتسلطة على رقابنا، وهذه المعارضات الضعيفة والمشتتة والمنشغلة بمصالحها وخلافاتها البينية، كما تتمثل أيضا في شعوب يائسة وعازفة وغير مبالية ومنسحبة من ساحة الفعل تاركة المجال لأصحاب المصالح والأهواء. اكتشفت أن النخبة غائبة، وجزء منها صار أجيرا يكتب من محبرة السلطة ويرى بعينها. إنها مأساتنا نحن العرب، بأسنا بيننا شديد، يحسبنا العدو جميعا وقلوبنا شتى، تزداد خلافاتنا وحروبنا في زمن لا مكان فيه للضعفاء. مأساتنا أننا لا نعرف كيف نتوحد، كما لا نعرف كيف نختلف. يتوحد العالم من حولنا ولا نزداد إلا تشرذما، ويتقوى خصومنا ولا نزداد إلا ضعفا، وينضج غيرنا ولا نزداد إلا بلادة. هي، إذن، إكراهات وضغوط تجعلنا أيتاما في مأدبة اللئام. وتدفعنا إلى الاقتناع بصحة المقولة الشهيرة «اتفق العرب على ألا يتفقوا».