إلى أين يسير قطاع العقار بالمغرب؟ وهل فعلا يعيش أزمة خانقة كما يؤكد كثير من المنعشين العقاريين، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون فترة خمول سيعود بعدها للانتعاش؟ المهنيون يصرون على تحميل المسؤولية للبنوك بالدرجة الأولى، والمواطنون يعجزون عن الولوج إلى القروض وتدفعهم الأسعار الملتهبة إلى إعادة حساباتهم أكثر من مرة، والخبراء يحملون المنعشين الجزء الأكبر من المسؤولية، لأن مشاريعهم تفتقد إلى تخطيط وجلهم يلهث وراء الربح السريع الذي يغري الكثيرين باقتحام المجال. منذ بداية السنة ظل موضوع العقار بالمغرب حاضرا في أكثر من وسيلة إعلامية، الكل يتحدث عن وجود أزمة خانقة تهدد القطاع في الوقت الراهن ومستقبلا، وتقارير صادرة عن مؤسسات مختصة تقدم تحليلاتها لأسباب الركود الذي يهدد أكثر من مجموعة عقارية. ناقوس خطر.. التقارير التي ترصد تطور سوق العقار المغرب، في السنوات الثلاث الأخيرة سواء تلك الصادرة عن بنك المغرب، الذي يصدر مؤشرا للأصول العقارية أو بعض المؤسسات المتخصصة، تتحدث عن تراجع كبير في المعاملات العقارية تختلف حدتها بين مدينة وأخرى، وهو التراجع الذي يجد تجليا له في انخفاض أسعار العقارات في جميع الفئات وتراجع القروض العقارية إلى مستويات مقلقة، إذ سجلت مثلا تراجعا من 7.5 في المائة سنة 2013 إلى فقط 3 في المائة سنة 2014. دون إغفال الانخفاض الملموس في مبيعات الإسمنت التي سجلت انخفاضا من 8.9 ملايين طن سنة 2012، إلى 7.8 ملايين طن سنة 2013، ثم إلى 7.4 ملايين طن خلال السنة الماضية. معطيات أخرى كشفت عنها نشرة صادرة عن مديرية الخزينة والمالية الخارجية، التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية، حول الظرفية الاقتصادية خلال 2014، تشير إلى صعوبات جمة لازالت تواجه قطاع البناء والأشغال العمومية، الذي يواجه أزمة خانقة منذ سنة 2012. إذ لم يحقق القطاع، سوى نمو طفيف بنسبة 0.3 في المائة خلال الفصول الثلاثة الأولى من السنة الماضية، مقابل تراجع بنسبة 0.1 في المائة سنة 2013. النشرة ذاتها كشفت أن التراجع شمل أيضا قطاع الإسمنت الذي انخفضت وتيرته نسبيا، حيث انتقل من ناقص 6.3 في المائة سنة 2013 إلى ناقص 5.4 في المائة إلى غاية الفصل الثالث من 2014. كما لم يستثن السكن الاجتماعي من التراجع القوي للقطاع، حيث سجل عدد الوحدات السكنية المبنية تراجعا ب 1.1 في المائة ليستقر في حدود 140.9 ألف وحدة، في حين عرف عدد الوحدات في طور البناء انخفاضا ب 6.7 في المائة. بداية السنة الجارية تكشف أيضا عن استمرار تسجيل المؤشرات نفسها، والمعطيات تفيد بإمكانية تسجيل انخفاض في الأشهر الثلاث الأولى من سنة 2015، وقد تستمر موجة الركود إلى نهاية السنة خاصة مع تسجيل انخفاض في نسبة فتح الأوراش بنسبة 5 في المائة وتواصل تراجع الطلب رغم تسجيل انحسار في الأسعار مقارنة مع موجة الغلاء التي سجلت طيلة السنوات الثلاث الماضية. فضلا عن المعطيات التي كشف عنها التقرير الأخير للمندوبية السامية للتخطيط الذي تحدث عن استقرار حجم التشغيل بقطاع «البناء والأشغال العمومية» مقابل تراجع سنوي متوسط قدره 37 ألف منصب خلال الثلاث سنوات الأخيرة. وهي كلها مؤشرات تدفع إلى طرح التساؤلات عن السبب الذي يقف وراء هذا التراجع، ومدى علاقة ذلك بالمتاعب التي بدأت تسجلها عدد من المجموعات العقارية، وضمنها مجموعات مدرجة في البورصة، والتي عرف حجم أرباحها سنة 2014 تراجعا بلغت نسبته 81.5 في المائة، لتبلغ فقط 544.8 مليون درهم؟ أزمة تدبير؟ تختلف تقييمات المتتبعين في تفسير ما يعيشه قطاع العقار المغربي هذه الأيام، ويذهب البعض إلى التأكيد على أن الأمر لا يتعلق بأزمة في قطاع العقار بقدر ما هي صعوبات يعيشها المنعشون العقاريون، أو على الأقل بعضهم لأسباب موضوعية ليس أقلها سوء تدبير المشاريع السكنية التي لا تستجيب لمتطلبات المستهلكين. يقول إدريس الفينا، الخبير في مجال العقار، إن الكلام عن وجود أزمة ليس صحيحا بالمطلق، «ومن الضروري تقديم أولا تعريفا لمفهوم الأزمة، فإذا تعلق الأمر بموقع المستهلك،فيجب التأكيد على أن العروض السكنية كثيرة لكنها تتميز بأسعارها المرتفعة وبتمركزها في مواقع بعيدة عن المراكز، وهذا هو المشكل الأساسي الذي يصادف المقتنين، ما يعني أن الراغب في سكن لا يجد المنتوج الملائم لقدرته الشرائية وفي الموقع المناسب. وهذا ما يمكن أن أصفه بعدم ملاءمة العرض للحاجيات المعبر عنها من قبل المستهلكين، وهذا في رأيي لا يرقى لأن أصفه بالأزمة».. «وأما ما يتعلق بالمنعش العقاري، يقول الفينا، «يجب أيضا التمييز بين المنعشين الكبار والصغار، فالوضع يختلف بشكل كبير بين الفئتين، فبالنسبة إلى المنعشين الصغار فلا مؤشر يدل على وجود أزمة بينهم، لأنهم ينتجون مشاريع ويتمكنون من بيعها دون أدنى مشكل، أما في ما يخص المنعشين الكبار، خاصة أولئك الذين دخلوا في مشاريع بأحجام كبيرة، ويرغبون في البقاء في الوضع الذي كانوا عليه قبل سنوات، أي أن ينتجوا وبيعوا مشاريعهم بالأسعار التي يريدون وهو ما لم يعد ممكنا، لأن الأمور تطورت بسبب وجود منافسة شرسة بين المنعشين العقاريين، وثانيا لأنهم أنتجوا بشكل لا يتناسب والطلب في المناطق التي تحتضن مشاريعهم، بسبب تركيز المشاريع في مناطق لا تتوفر فيها إمكانيات التسويق، وهو ما أدى إلى انخفاض وتيرة الإنتاج مقارنة مع التوقعات المعلنة وهو ما انعكس على قدرتها المالية وتسبب في تراكم الديون..». التحليل الذي يقدمه الفينا يتحدث عن سوء تدبير للمنعشين الكبار، أو على الأقل تدبير لا يتلاءم مع الوضع الحالي لقطاع العقار، مقارنة مع بعض الفترات التي شهدت بالفعل طلبا قويا على السكن خاصة المرتبط بالمضاربة والطلب الخارجي، وهو الطلب الذي تراجع بشكل كبير. ولهذا ففي نظره لا يمكن أن نتوقع مثلا أن يحدث مثلما حصل في إسبانيا إبان أزمة العقار التي تسببت في زعزعة أسس الاقتصادي الاسباني، لأن المعطيات تختلف والمنعشون العقاريون المغاربة أذكياء نوعا ما مقارنة مع نظرائهم الإسبان، إذ لم نشهد، يشدد، إنتاج مشاريع كثيرة تنتظر من يقتنيها، بل على العكس في المغرب يتم إنتاج المشاريع التي توقع بشأنها وعود بيع مع المقتنين، وحين يصل المنعش إلى نسبة معينة من وعود البيع يشرع في إنتاج مشروعه، وهنا يقع إشكال آخر لأن الكثير ممن يوقعون وعود بيع ليسوا هم بالضرورة مشترون نهائيون، بل في غالب الأحيان يتعلق الأمر بمضاربين يتحينون فرص ارتفاع الأثمان لبيعها لمشتر آخر وهو ما يسبب ركود المشاريع في حال عدم ارتفاع الأسعار». شطط البنوك منذ بدء الحديث عن وجود أزمة في القطاع تحركت أكثر من جهة حكومية في محاولة لاحتواء تداعياتها، ولعل الاجتماعات التي جمعت المسؤولين عن قطاعات المالية والسكنى والداخلية برئيس الحكومة، فضلا عن اجتماعات مماثلة جمعت المهنيين، خاصة المنتمين للفيدرالية الوطنية للمنعشين العقاريين أو المنتسبين للاتحاد العام لمقاولات المغرب فضلا عن جمعيات المنعشين المتوسطين والصغار، دليل على أن الوضع ينذر بالأسوأ، وبتتبع التصريحات التي صدرت في أكثر من مناسبة عن ممثلين للمنعشين بمختلف فئاتهم، يبرز معطى أساسي هو تحميل البنوك الجزء الأكبر من الأزمة، بسبب ما يصفها هؤلاء بالتعقيدات التي ترافق دراسة ملفات القروض وفي هذا الصدد يقول أحمد بوحميد، رئيس فيدرالية المنعشين العقاريين الصغار: «قبل سنتين قلت هذا الكلام، لكن لا أحد كان يرغب في الاقتناع بأن القطاع يعيش فعلا أزمة، والسبب الرئيسي في نظري تتحمله البنوك، بسبب المدد الطويلة التي تحتاجها دراسة الملفات والتي قد تصل إلى أزيد من شهرين أو ثلاثة أشهر للحصول على جواب سواء بالموافقة المبدئية أو الرفض، في حين أننا في السابق كنا نحصل على رد في مدة لا تتعدى 48 ساعة، والسؤال الكبير الذي يجب أن نطرحه هو: من يختبئ وراء هذا الملف، وهل هناك بالفعل أزمة حقيقية أم هي فقط أزمة مفتعلة؟ والغريب أن الطلب موجود والمواطنون يعبرون عن رغبتهم في اقتناء سكن لكن حين تطرق أبواب البنوك يصطدمون بالعراقيل، واليوم 95 في المائة من المشكل هي بسبب التمويلات البنكية، وهو أمر يتضرر منه جميع المنعشين سواء الصغار أو المتوسطون، وحتى الكبار، ومن مظاهر الأزمة أن ثمن البيع في الدارالبيضاء مثلا تراجع بقرابة 15 في المائة». بوحميد يشدد على أن «الأمر يتعلق بجميع الأصناف، والبنوك ترفض حتى ملفات موظفين ذوي مدخول شهري قار ويسمح لهم بالاقتراض، وليست فقط ملفات الفئات الهشة التي يتم رفضها». الفكرة ذاتها يشاطرها مصطفى العلالي، وهو منعش عقاري بمدينة المحمدية، إذ يقول إن «البنوك وضعت شروطا تعجيزية للحصول على القروض، والمغرب يشهد خصاصا في السكن وهذا أمر تؤكده المعطيات الرسمية، ولا نشهد أزمة كتلك التي شهدتها إسبانيا أو الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث هناك فائض في الانتاج، لكن في المغرب المشكل الأساسي يكمن في ضعف القدرة الشرائية للمغاربة التي لا تتلاءم مع أسعار المنتوجات المعروضة في سوق العقار خاصة السكن الموجه للفئات المتوسطة». العلالي يضيف: «مسؤولية البنوك أكيدة، وكثير من البنوك صارت تتهرب من منح القروض المدعمة في إطار برنامج «فوكاريم» الذي وضعته الدولة للفئات محدودة الدخل، واليوم هناك مجموعة بنكية وحيدة استمرت في قبول هذه الملفات، وهذا ما تسبب في إقصاء شريحة واسعة من المغاربة من حقها في الولوج إلى سكن»، ليختم: «الأزمة ليست بالحدة التي يصورها البعض، والحل في نظري بيد البنوك التي عليها أن «تطلق يدها» وتتجاوز العراقيل التي تضعها بخصوص ملفات الراغبين في اقتناء سكن، وهذا كفيل بإعادة تحريك القطاع والدفع به كما كان عليه الحال قبل سنوات قليلة». الدولة مسؤولة أيضا؟ على النقيض من التبريرات التي يسوقها المنعشون العقاريون وتحميلهم البنوك المسؤولية في وضعية الركود الحالي للقطاع، يرى الخبير إدريس الفينا أن «البنوك هي في المحصلة مؤسسات خاصة تتصرف بشكل عقلاني ولا يمكن أن تحشر نفسها في أزمة بعض المنعشين الناتجة عن سوء تدبيرهم، أما ما يتعلق بمسؤولية الدولة، ففي رأيي أنها لا تتحمل أي مسؤولية في الوضع الذي يعرفه قطاع، يحتكم لمنطق السوق، وبالتالي فدور الدولة ينحصر في وضع القوانين أو تقنين بعض المجالات فقط، ولا يمكن بأي حال أن نتوقع تدخلها للضغط على البنوك كما يطالب به البعض». من جهته يرى أحمد بوحميد أن «الحل يكمن في تبسيط المساطر، وعلى وزارة المالية في قانون المالية أن تأخذ قرارا أساسيا بتخفيض عدد الشقق من 500 شقة في 5 سنوات إلى 250 أو 200 شقة، مع تشديد شروط دفاتر التحملات، ما سيمكن المنعشين من توفير شقق بمساحات مقبولة، تتراوح بين 65 و70 مترا مربعا وبجودة عالية، بدل 45 و48 مترا التي تنجز في الوقت الراهن، وهذا سيعود بالنفع على المواطنين خاصة مع المنافسة التي ستتم بين المنعشين لتوفير سكن يحظى بإقبال المواطنين، وسيجبر المنعشين الذين يبحثون عن هوامش ربح تصل في بعض المشاريع إلى 80 في المائة على الانسحاب من القطاع». «من أهم الشروط التي تمكن من إعادة الروح إلى قطاع العقار، يقول بوحميد، «هي تقليص كثرة المتدخلين، وتبسيط المساطر، والتوفر على مخاطب مباشر، خاصة مع العراقيل الكثيرة التي تصادف المنعشين على صعيد استصدار التراخيص، والحكم سيكون هو دفتر التحملات واعتماد مبدأ المحاسبة في حال لم يتم احترام التعاقد الموقع بين الدولة والمنعشين. وفي اعتقادي أن الوقت قد حان فعلا للاهتمام بعنصر أساسي في المعادلة وهو المواطن، ولم يعد مقبولا أن نقدم له منتوجا لا يحترم كرامته وآدميته، وعليه أن يؤدي أقساطه طيلة 25 سنة من عمره». حدود تدخل الدولة، يقول الفينا، «يرتبط فقط بالقانون المرتبط بإنعاش السكن الاجتماعي، وهو قانون يحتاج فعلا إلى إعادة صياغة، لأن الطريقة التي تتم بها الآن قيادة تدبير القانون تطرح إشكالا وهو ما ساهم في الوضعية التي يعيشها بعض المنعشين العقاريين، خصوصا على مستوى السكن الاجتماعي الذي يمنح بالمناسبة هوامش ربح مرتفعة للمنعشين ومنهم من التحق بنادي الميليارديرات الذين خلقوا مع فورة السكن الاجتماعي قبل سنوات، وما يزالون يرغبون في الاحتفاظ بالريع الذي منحته إياهم الدولة وهو إشكال كبير لأنهم يرفضون أن يخفضوا من هوامش ربحهم، ولهذا فالقانون الذي يؤطر السكن الاجتماعي وقراءته السيئة هي ما أفضى إلى هذه الأزمة». ليختم «حكامة القطاع مطروحة، ومسؤولية الدولة ثابتة، لكن لا يمكن أن نحملها تبعات سوء تدبير المنعشين».