(قُتِل الإنسان ما أكفَرَه!)، إذا اختار أن يرتدّ أسفلَ سافلين، فلا تَعرِف قرارةَ الهاوية التي يسقط فيها. فكلما ظننتَ أنه ارتطم بها، أثبت لك أن ثمةَ مستوياتٍ أخرى أسفلَ منها، حتى تقول: ما الذي تبقّى بعد هذا؟ أليس لهذه الهاوية من آخِر؟ ألم يَستنفد كلَّ ما يخطرُ في بالٍ من المعاذير والحُجج؟ أليس هناك من حدٍّ تنتهي عنده الصلافةُ والتنفّجُ والمكابرةُ والعزةُ بالإثم، لتبدأ فضيلةُ الاستحياء الملازم للشرط الإنساني؟ تلك التي تلزمنا -مهما نبلغ من الجرأة والتمرد والتحدي- بأن نستر عوراتنا في الطريق، فإن لم نجدْ ثوباً خصفنا عليها من ورق الشجر كما فعل أبوانا آدمُ وحواء! ولكن، لا. فقد علمتنا التجارب في السنين العجاف الأخيرة أن للذروة نهاية يمكن معاينتُها، أما الحضيضُ فهاويةٌ بلا قرار. وإذ هو طريق لا رجعةَ منه، فإن المتردّي فيه لا يملك إلا المكابرةَ والإنكار، ومعهما التحدي. فلا جدوى من الجدال معه، وإن شهدت على كلامك الحواسُّ الخمسُ وقوانينُ الطبيعة وقواعدُ الرياضيات، وحتى لو صدَّق العدوُّ نفسُه شهادتَك! إنها «عنزة وإن طارت»، وإن كان لا بدّ من اتهام طرف ما، فاتَّهِمْ بصرَك. والسلطان يرتدي كامل بزته الملكية، وإن كان في الحق عارياً. ومن جديد، لا تَبُحْ بما تراه حقاً فتُُتَّهمَ بضعف الإِبصار، وربما بضعف العقل. وإسرائيل لم تُخفِقْ في تحقيق أهدافها في حرب يوليوز عام 2006 في لبنان. وإن كان لا بدَّ، فإنَّ اعتراف العدو بالإخفاق شهادةٌ له، إذ إنه لا يرضى بأقلَّ من تحقيق انتصار شامل ساحق معياراً للنجاح، فإن وقَفَ دونه ولو قليلاً، اعتبَر ذلك إخفاقاً، وعمد إلى التحقيق والمراجعة والنقد والمحاسبة، مما يعبِّر عن نظامه الديمقراطي الشفاف، في مقابل عرب يحولون الهزائمَ إلى انتصارات، ويستعلي مسؤولوهم فوق المحاسبة. أما غزةُ، وما أدراك ما غزة؟ فلا يلومَنَّ «الظلاميون» فيها إلا أنفسَهم، فلا الاحتلال ولا الحصارُ ولا التجويع ولا تواطؤُ السلطةِ وبعضِ الأطراف العربية، هو المسؤول عن الضحايا والدمار، وإنما هو الانقلاب «الظلامي» والمغامرات العبثية باسم المقاومة. ولا عليك إن وشى العدوُّ نفسُه بتواطؤ السلطة معه أو باح مسؤول فرنسي رفيع، في أثناء العدوان الغاشم، بأن دولة عربيةً كبرى أبلغته بأنه لا يجوز أن تخرج حماس من المعركة منتصرةً، إذ يكفي الإنكار هنا لدفع هذه التهم. كما أن الطيران ليس دليلاً على أنَّ ما نُبْصِرُه طائر وليس «عَنزا ً»! وحين تظن أن سدنة التنوّر العلماني وأعداءَ «الظلامية» والتطرف والإرهاب سوف يتقبّلون أخيراً عملاً تقوم به حماس، حين تحركت بسرعة لقمع جماعة متطرفة ذاتِ علاقة بالقاعدة، فإنهم يثبتون من جديد جرأتَهم على التحريف والمكابرة والمماحكة وتزييف الحق والحقيقة. فالتحرك الذي قامت به حماس لا يبرئها من تهمة الغلوِّ والصلة بفكر القاعدة، وإنما هو بعكس ذلك دليل آخرُ على عواقب اتجاهها الظلامي الإسلامي. فالمناخ الإسلامي الذي خلقته في غزة، أو برنامجُها في «أسلمة المجتمع»، هو الذي خلق الظروفَ المناسبةَ لظهور تيارات إسلامية أخرى أكثرَ غُلُوّاً وتطرفاً وإرهاباً!! وفضلاً عما ينطوي عليه هذا التأويلُ من تحريف ومكابرة وتزييف، فإنه يعبر عن موقف استعلائي مغتربٍ عن المجتمع الفلسطيني، حين يفترض أن ظواهر التديّن في المجتمع ليست خياراً مجتمعياً متصلاً بالجذور الشعبية الاجتماعية الثقافية العَقَدية، وإنما هو نتاج برنامج قسري مفروض بالقوة. وكأنَّ الأصلَ في المجتمع الفلسطيني ضعفُ التوجه الديني، لولا ما كان في غزةَ من هيمنة «الظلاميين»، وكأنَّ مجتمع الضفة في المقابل متحررٌ من نزعة التدين وظواهر الالتزام الديني، وأنه على نفس سوية السلطة في بُغض الظلامية والظلاميين. ولا يشترط أن تكون متديناً أو حتى مسلماً لتعلمَ أن هذا تحريفٌ وتزييف واستعلاء وقلبٌ للحقائق. يكفي أن تتسم بالنزاهة، وأن تُعايِنَ الواقعَ الاجتماعي برؤية الباحث الاجتماعي المتزن، لِتَصِفَ الظرفَ الاجتماعيَّ الثقافيَّ وفقاً لمعطياته وشروطه، لا وفقاً لقالبك العَقَديِّ المُسبَق ولأفكارك «الرغائبيّة». أما تهمة القمع والاستبداد وعدم التسامح، فأجدَرُ بها من يتنكرُ لحقائق الواقع الاجتماعي الثقافي الشعبي، ثم يعمل على تنميط المجتمع وفقاً لرؤيته وتوجهاته! وإنها لعنزة ولو طارت. على أنَّ كلَّ ما أوردناه، من مواقف المماطلة والمكابرة وتحدّي المنطق والوقائع الشاخصة، يتصاغرُ أمام الذروة الأخيرة، بل الهاوية الأخيرة، التي انزلقت إليها السلطة، حين تدخلت لسحب تقرير غولدستون، بغيةَ إنقاذ العدو من المحاسبة على جرائم الحرب التي اقترفها في غزة، في سابقةٍ لم نعلمْ لها مثيلاً. ولقد توهمنا للحظة قصيرة أن هذه الفضيحةَ، أو الموبقةَ المهلكةَ، الحالقةَ لكل معاني الوطنية، أكبرُ من أن يدَّعي فيها المدَّعي أو يكابرَ فيها المكابر، وأنها آخرُ تخوم الخزي والعار. وقد بدا لأول وهلة أن أصحابها قد اعتراهم بعضُ ما يعتري بني آدم من الشعور بالخجل، فظهر منهم بعض الاضطراب والتناقض والرغبة في التنصل من المسؤولية، ولو إفكاً وكذباً. فمن قائل: نريد أن نحقق في الأمر لنرى كيف كان الذي كان، ومن قائل: لا شأن للسلطة ورئيسها بالأمر، وإنما مَرَدُّ ذلك إلى المجموعة العربية والإفريقية والإسلامية التي دفعت بالمشروع ابتداءً، ونحو ذلك من المحاذير الواهية التي تستخف بالعقل وتزري بالحقائق. ثم يبدو أن القومَ فكَّروا وقدّروا، فقُتلوا كيف قدّروا، ثم عزموا أمرَهم على التحدي والمكابرة. فمِن قائل: «هذه مسألة ثانوية لا ينبغي أن تطغى على المطلب الرئيس في الوقت الحاضر، وهو المصالحة الوطنية». ونعم، ما زلنا نقول: المصالحة مطلب رئيسي، ولكن العمل على تبرئة العدو ليس مشكلة ثانوية، وإنما هو جناية عظمى، بل الأحرى خيانة عظمى، ليس فقط لدماء الضحايا والشهداء الذين يصرّ هؤلاء على أنهم ممثلوهم الشرعيون، ولكنها خيانة لملايين الأحرار في الوطن العربي والعالم بأسره، أولئك الذين تظاهروا في الشوارع تنديداً بالمجزرة، وانحيازاً إلى دماء الضحايا. وهي كذلك خيانةٌ لمؤسسات المجتمع المدني الدولية التي طالبت لأول مرة بالتحقيق الدولي في الجرائم الإسرائيلية وملاحقة المسؤولين عنها. أهذه الجريمة العظمى مجرد مسألة ثانوية لا تستدعي كل هذا الضجيج؟ هذا ما يراه الضالعون فيها. فإن لم تقنعنا هذه المحاولةُ البائسة للالتفاف على الموضوع، خرج علينا رئيسُ السلطة بهجوم مضاد على المطالبين بتأجيل التوقيع على وثيقة المصالحة في القاهرة، مذكِّراً من جديد بانقلابهم «الظلامي»، بوصفه أصلَ الداء وأسَّ البلاء. ويا للمفارقة المضحكة المبكية بين تأجيل وتأجيل! أما طلبُ تأجيل مناقشة تقرير غولدستون فمسألةٌ ثانوية عَرَضيةٌ لا تستأهل كل هذا الضجيج، وأما طلبُ تأجيل التوقيع على المصالحة، ردّاً على تلك الفضيحة الكبرى، فهو الأجدرُ بالإدانة والتهمة! يتبع..