مقاربة واعظة لرواية امرأة النسيان" في البداية أعتذر للأستاذ الأديب المبدع محمد برادة لأنه سوف لن يجد في مقاربتي لروايته ما يخدم تجربته الفنية، فأنا لست من المتمرسين بقواعد لعبة النقد الأدبي ومناهجه، وعليه لا يمكن إدراج مقاربتي في خانة النقد الأدبي والدراسات الأدبية رغم ما قد يجده القارئ من إشارات فنية لا يخلو منها مقال انبثق من وجدان مشتعل. إذن، فهي قراءة فكرية، تأملية من موقع الممارسة السياسية في وطننا الحبيب: المغرب... وإذا التمسنا الدقة في تحديد نوع هذه المقاربة قلت: إنها قراءة داعية إسلامي تمرس بالوعظ والإرشاد وهو يلتمس الموعظة في كل شيء... في الطرح الديني الصميم، والطرح الفلسفي والاجتماعي والأدبي... وفي نهاية هذه البداية الاعتذارية، أختمها بشكر الأستاذ الأديب على المتعة التي وجدتها في روايته (امرأة النسيان)... متعة في صحبة عبارة سردية ساحرة مشحونة بصور ومشاهد وأفكار يسرح فيها العقل والوجدان؛ فلا تستطيع الانصراف عنها إلى غيرها من الأعمال، إلا بعد الإتيان عليها كلها. وهذا ما حصل لي معها، فما إن بدأت رحلتي المانعة في عوالمها حتى أحسستها عند كل جملة وعبارة تتزين لي بما يغريني، لدرجة الإغواء، بالإغراق في قراءتها، ولم يكن ثمة شيء يخرجني من مسها الشيطاني سوى نهوضي إلى جمالية الصلاة والاستجابة لندائها العلوي الله أكبر الله أكبر... حي على الصلاة، حي على الفلاح..» وبعد انقضاء كل صلاة أعود إليها لأنغمر في فتنتها السردية وأتابع سفري فيها.. شكرا للأستاذ المبدع ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله» «أن اشكر لي ولوالديك»... إطلالة على أطلال «أليس من حقنا أن نفعل شيئا لاستدامة نجمة آيلة للأفول؟» هكذا تساءل الكاتب في تصدير له للفصل الأول، يطلب أن يسمح له، فقط، بإطالة أمد حالة الأفول الخريفي واستدامتها... فوعيه كان غائبا/مستلبا طول النهار، لا تفارقه بلاهته، ولا يعود له صحوه إلا عند اقتراب الغروب. «لا أكون صاحيا مستعدا للاستقبال المتفاعل إلا بعد الخامسة ظهرا» (1). وهذه حالة من يراقب «أملا» يسير باتجاه الاختفاء وهو لا يريده أن يختفي لأن باختفائه لا يبقى لحياته معنى؛ فإن كان ولا بد، فلا أقل من أن يحاول استدامة حالة الاختفاء. فبعد انهيار المشروع (القومي العلماني الاشتراكي) في الوطن العربي، انهيارا كاملا ولم يعد يجد لنفسه موطئ قدم عند الشعوب العربية أصيب أكثر مفكريه ومناضليه بما يشبه الإحباط فامتلأت نفوسهم قلقا واضطرابا وضياعا... «إنه زمن الخلخلة، إذن، الخلخلة والتقوض والسقوط (...) كل شيء على شفير الهاوية؛ وألف شيء وشيء قد تهاوى فعلا واكتمل اندثاره وسيغدو وشيكا نسيا منسيا» (2) وهذا ما نحسه بعنف بياني في رواية «امرأة النسيان»... فبعد اندفاعة شبابية ملتهبة وراء أطروحة النفي عند هيجل وماركس وفرويد... وعجنها بطموحات قومية؛ وبعد الاشتعال بحماسيات انتفاضة 1968 الفرنسية والاستسلام التبعي لإغراءاتها والاستجابة لمطالبها واقتضاءاتها التي تشير إلى ضرورة التحرر من التقاليد والموروثات البالية. بعد هذه وغيرها من الطموحات التي كانت تسكن جيل الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي (مرحلة الاستكشاف والاندفاع) على حد تعبير الكاتب، سيفاجأ حلمهم الكبير في بداية الثمانينيات وفي التسعينات بما يجعله يتلاشى على كل المستويات الفكرية السياسية الاجتماعية وغيرها.. «في البداية، رحت أقرأ بنهم، أناقش وأكرع من كل الكؤوس التي ظننت أنها ستروي غليلي، وأغرتني لحظة المراجعة وإعادة النظر في الفكر الفلسفي الفرنسي خلال الستينيات، فاستسلمت للإغراء واهتممت بفكرة النفي التي اعتبرتها رحما منها تولد الأشياء المثيرة والتغيرات المجددة. لم أكن أستطيع أن أثبت ذاتي إلا بنفي الموروث الذي شل وجودي وحولني إسفنجة تمتص ما يلقى إليها من معلومات وأوامر وتعاليم». هكذا حاولوا الغوص إلى أعماق الأعماق... مغامرة تقود إلى أخت لها، أعنف منها، وربما أشهى وألذ، لعلهم يصلون إلى القاع حيث سيجدون اعتقدوا البنية التحتية التي سيشكلون منها خلفيتهم الفكرية لينقطعوا مرة واحدة عن علائق جذور موروثاتهم التاريخية والاجتماعية المتخلفة. فكانت رحلة ممتعة لدرجة الإسكار والغيبوبة، وكبر حلمهم، وتضخم بدواخلهم حتى أفسد عليهم الرؤية الصحيحة لواقعهم، فتعاطوا مع هذا الأخير بما لا يوافقه ويلائمه وينسجم معه؛ وحاولوا إكراهه باسم العنف الثوري... فغالبوه... فغلبهم! فإذا بالحلم الكبير يرحل متلاشيا في عالمه السديمي المغالط، ليخلف لهم ذاكرة ملأى بالكوابيس والأشباح المخيفة والأنقاض الكئيبة المحزنة... فبعد السعي إلى الامتلاء والحضور وشغل كل الفضاءات والأزمنة بالحركة (النافية والمنفية) والكلمة (الرافضة والمرفوضة) يأتي زمن الخلخلة حيث اهتز كل شيء فارتسمت معاني العبثية والضياع فضاعت الفضاءات والأزمنة وجمدت الحركة ولم يبق إلا الكلمة المبدعة وذاكرة ملأى ضاقت بامتلائها!! فانقلب السعي القديم إلى الامتلاء والحضور، سعيا إلى تعلم لعبة النسيان وممارستها لتفريغ الذاكرة الملأى... فلما لم تسعفهم اللعبة بمطلوبهم قرروا التسلي، وفقط، بمحاولة التناسي. وهذه الممارسة صعبت واستحالت عليهم لأنهم أرادوا الوعي على خلاف طبيعته وهو عنيد لا يخالف طبيعته إلا إذا أخرجته إلى الجنون وعندها لا يبقى وعي ولا قانون الوعي، ويرفع القلم... فلا حجة على مكره أو نائم أو غائب أو مجنون. واقع نضالي مفارق!! هناك تبدلات طرأت على علائق المناضلين وعن مظاهر التأزم المخترقة للحزب كما للمجتمع «تمضي أيام، شهور، أحيانا قبل أن نتفطن إلى الدوامة التي تبتلعنا وتجعلنا نتحمل المواضعات واللياقات بدلا من أن نعيش ما نظن أنه جوهر الحياة..» فالمناضلون الذين قضوا أكثر من نصف أعمارهم في الدفاع عن الطبقات المسحوقة والإنكار، لدرجة السخط الحاقد، على الطبقة المتسلطة، بورجوازية كانت أو خادمة لها، التي تستفيد من الفرص المتاحة لها وتسعى إلى تكريسها وإدامتها أكبر وقت ممكن... هؤلاء المناضلون سيطول عليهم أمد النضال فتقسوا قلوبهم ويتحركوا قبل فوات الأوان «طالت فترة المعارضة وطال انتظاره (مناضل). ناضل طويلا، لكنه لا يرى أن المناضلين خلقوا ليموتوا في المعارضة» خرجوا حتى لا يدركهم الموت وهم لم يذوقوا بعد ثمار سعيهم ونضالهم، فالحكمة حاكمة من جد وجد وليس في الوطن من جد، جدهم، ولا سعى، سعيهم... إذا لابد أن يجدوا أحسن من غيرهم أو على الأقل مثلهم وهذا ما حصل فعلا «حاولت أن أتملص مذكرا إياه بالخيبة التي استشعرتها في السنة الماضية، عندما أخذني (سي مصلح) إلى حفلة أقامها أخ لنا (في الحزب طبعا) مستوزر بمناسبة زفاف ابنه أو ابنته، وكانت باذخة حد السفه (ثلاثة أجواق من مناطق مختلفة) خرفان مشوية بالعشرات، بسطيلات يسيل لها اللعاب، دجاج محمر مكتف داخل الطواجين، فواكه وحلويات وعصائر بكل الألوان...» ومادام أن الفرص المتاحة بعد الانتقال من المعارضة إلى سدة الحكم لا يمكنها استيعاب كل المناضلين ومعظمهم كبر سنه ولم يعد في العمر بقية تسمح بانتظار دوره إن كانت ثمة عدالة توزيع الغنيمة بين الرفاق المناضلين. وحتى لو بقيت في العمر بقية فإن التجربة مهددة بمنافس عنيد صاعد قد يريحهم من منصة الحكم بين عشية وضحاها. إذا على كل مناضل أن يطلب حظه ونصيبه كاملا غير ناقص قبل فوات الأوان، ولا معنى لخداعه بأماني الانتظار. فهو لن ينتظر أبدا ولو أدى به الأمر إلى تحريك ترسانة تاريخه النضالي ضد جماعة الانتهازيين، الاحتكاريين... «علاقتنا لا تخلو من مجاملة رغم أن حاجيات تواصل كثيرة تجعلني لا أطمئن إلى ما يتفوه به، خاصة بعد ما حكى لي صديق أثق فيه، أنه شاهد عوالا وهو يبكي عندما علم بإبعاده من لائحة الترشيحات البرلمانية؛ وكان يضرب الجدار بقبضته ويصرخ: «أنا أحرم من الترشيح رغم قيمتي التي يعرفها الجميع داخل الحزب وخارجه. لا أصدق ذلك، لا أصدق...» (ص: 36). ومناضل آخر «فوجئ بعدم تعيينه في تشكيلة التناوب، فطرق باب صديق له أصبح وزيرا، وأخذ يقنعه بأن يتنازل له عن المنصب لأنه كان مهيئا نفسيا للوزارة، وسبق أن أخبر عائلته بأنه سيعين في ذلك المنصب المحتاج إلى كفاءته التكنولوجية!» (ص: 34) مشاهد متناسلة ومواقف «نضالية» تنكرت لأخلاقيات النضال القديم، وليس لها من صفة النضالية إلا كونها صادرة عن أناس كانوا يعرفون بالنضال حتى تماهوا معه فلا تستطيع أن تفصلهم عنه أو تفصله عنهم وأصبح كل سلوك يمارسونه نضالا بالظاهر المتبادر، إلا أن تصرفه قرينة عن ظاهره. فجاءت تجربة التناوب التوافقي محملة بقرائن صرفت مظاهر نضالية كثيرة إلى معانيها الحقيقية، مما جعل الكاتب يتساءل: «..والآخرون أعرفهم، هل حقا أنا أعرفهم؟» هو يعرفهم، ولا يعرفهم! يعرفهم يوم كانوا على العهد يفيضون حماسا شبابيا يحمل مشروع التغيير في خفة ونشاط... ولا يعرفهم بعدما لحقهم المسخ وصاروا غير من كانوا أو صار بعضهم إلى حقيقته التي أخفاها تحت قشرة الرياء النضالي عن رفاق النضال... وبتضافر القرائن وتكاثرها اكتشفت الجماهير وعيها واندفعت تعاقب المنظمات التي لم تعرف أن تجدد نفسها حتى لا يستعملها المستفيدون العابرون إلى خيمة السلطة (ص: 41) وهي لن ترحم المنظمات التي لم تتعظ من حوادث الزمان مهما كانت خلفيتها الإيديولوجية وتعاطف الناس معها. ومهما كان عمق انغراسها في وجدانهم، لأنهم يريدون من يصدقهم في المعارضة ويصدقهم أكثر يوم يصير إلى قصر السلطة. لهذا ليس لأي منظمة أو حزب أن يراهن إلا على صدق التزام أعضائه وإخلاصهم وتضحياتهم ويأسهم من تحصيل أي نفع من المنافع الدنيوية الشخصية، وخصوصا إذا كانت هذه المنظمة أو الحزب أو الجماعة يمتح قناعاته من مرجعيته الإسلامية (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). وما ابتلي به الرفاق المناضلون قد يبتلى به الإخوة الدعاة الذين يمارسون العمل السياسي، مع فارق بسيط هو أن الرفاق المناضلين أقرب إلى العذر في هذا المضمار من الإخوة الدعاة بحكم أن القيم الدينية أقوى من غيرها في إنتاج شخصية إنسانية متزنة ومتعالية عن إغراءات الواقع الدنيوي. كان بودي أن أستمر في الكتابة عن هذه الرواية الشيقة وخصوصا عن جرثومة الرفض التي سكنت لاشعور جيل الستينيات والسبعينيات وكيف حالت بينه وبين الرؤية الواسعة القادرة على إدراك كل البدائل المعروضة في ساحة الصراع الفكري والسياسي في الوطن العربي، بما فيها البديل الإسلامي، فتختار قبل أن تحتار حيرة متلفة وتسقط في شباك الإحباط وتحكم على الواقع بأنه محيط يعدم الطموحات وفي الختام أتمنى أن لا يقرأ أحد خصوم الرفاق المناضلين هذه الرواية بروح التشفي والمنافسة السياسية التعصبية المقيتة ويسعى من خلالها للإجهاز على خصمه بدل أن يسعى من خلالها ليعيد النظر في بناء اختياراته وطموحاته وإعداد النماذج البشرية القمينة بحملها والسفر بها إلى الآخر، خدمة للأمة؛ بل أتمنى خطوة زائدة على هذا التمنى، وهي أن نسعى إلى الإخوة الرفاق بتواصل أخوي يرد إليهم ثقتهم بأجمل اللحظات الإنسانية النضالية في حياتهم ويكسبهم ثقة بالمشاريع والبدائل الخادمة للأمة وفي مقدمتها البديل الإسلامي. (1) امرأة النسيان ص: 7 (2) افتتاحية مجلة مواقف عدد: 65 لكمال أبو ديب رشيد سودو