ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي قدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على قناة «أنا» الفضائية، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والذي تعمل «المساء » على نشره بشراكة مع قناة «أنا» أكد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أن جماعات العنف جربت القوة، ولم تفلح في أن تسقط حكومة أو تغير نظامًا، معتبرًا أنه على المسلمين أن يتعلموا من تجارب العالم في تغيير الحكومات التي تفشل في أداء مهمتها، وأن يجاهدوا سلميًا لتحقيق ذلك. وأشاد بتجربة حزب العدالة والتنمية التركي في مواجهة العلمانية التي تسيطر على مقاليد الأمور في البرلمان، وذلك من خلال تجنب الصدام واستخدام الحكمة والتدرج، حتى استطاعوا تحقيق إنجازات أشاد بها العالم. جاء ذلك في حلقة برنامج «فقه الحياة» الذي أذيع يوميًا طوال شهر رمضان على قناة «أنا» الفضائية وقدمه أكرم كساب، حيث تطرقت الحلقة كذلك إلى جماعات العنف وما انتهت إليه من مراجعات تخلت بموجبها عن العنف والتكفير. واعتبر القرضاوي الجهاد لا يقتصر على السيف، موضحًا أن أبواب الجهاد الأخرى المفتوحة أمام الشباب المتحمس كثيرة جدا، وعدد منها تعليم الناس وتثقيفهم وتربيتهم، وكذلك التعريف بالإسلام وتصحيح الصور المضللة عنه في العالم. - في عصرنا هذا ما الآلية التي يستطيع الشباب، خصوصًا المتحمس الذي يحاول أن يقدم شيئًا لهذا الدين، من خلالها أن يسقط عن نفسه فرض الجهاد؟ > بسم الله الرحمن الرحيم.. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا، وإمامنا، وأسوتنا، وحبيبنا ومعلمنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. وبعد.. فمن حق الشباب أن يتحمس لدينه، ومن حق الطامحين منهم أن يتشوقوا إلى أن يكون لهم نصيبهم من الجهاد في سبيل الله، وأن يتوقوا إلى الشهادة، وأن يكون لهم ما كان لشباب الصحابة رضوان الله عليهم فهذه طموحات مشروعة، ولكن المشكل حينما يوضع الأمر في غير موضعه، فيخوض معركة يسميها جهادًا وهي ليست من الجهاد في شيء، وذلك لأن كل شيء له قواعده وأركانه وشروطه، فأحيانًا لا يستكمل الشروط، ولا يستوفي الأركان المطلوبة، فمن أجل هذا كان لابد من فقه، ونحن نسمي حلقاتنا هذه «فقه الحياة» لأنه من غير فقه لا تستطيع أن تقدم شيئًا يحسب لك عند الله. الإمام الحسن البصري قال: اطلبوا العلم طلبًا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا يضر العلم، فإن أناسًا تركوا العلم وصاروا في طريق العبادة، خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشير إلى الخوارج، الخوارج كانوا أناسًا متعبدين، صوامين، قوامين، قراء للقرآن، مضحين في سبيل الله، ولم تكن آفتهم في ضمائرهم ولا قلوبهم، ولكن آفتهم كانت في رؤوسهم وعقولهم، حيث أساؤوا فهم القرآن فقاتلوا المسلمين، واستباحوا دماء غيرهم، حتى استباحوا دم ابن الإسلام البكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولذا فمن المهم حسن الفقه «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين». الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن هؤلاء: «إنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته إلى قراءاتهم، ومع هذا يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، يدعون أهل الأوثان ويقتلون أهل الإسلام، فمن المهم للشاب أن يحسن الفقه فيما يريده، من إرضاء الله عز وجل. - أنتم واحد من شيوخ الصحوة الإسلامية في العصر الحديث، فكيف ترون هذه الجماعات التي حملت السلاح فسفكت الدماء وهؤلاء جميعًا كان الواحد منهم يتذرع بآيات القرآن والأحاديث؟ > هكذا كان الخوارج أيضًا، فمشكلة هؤلاء تكمن في التمسك بالمتشابهات وترك المحكمات، فالكل يأتي بآيات والكل يستدل بأحاديث، ولكن المهم أن تضع النص في موضعه، ولا تحرف الكلم عن مواضعه، فهؤلاء الشباب عندهم خلل في فقههم، وهم لهم فقه خاص كونوه من قراءات من هنا وهناك لبعض الشيوخ، وهذا الفقه فيه خلل من ناحية النظر إلى غير المسلمين، فهم يعتبرون كل من كان غير مسلم مباحًا دمه وماله. وعلى هذا بعضهم كان يستحل أن يسرق محلات الذهب المملوكة للأقباط في مصر، مع أن هؤلاء هم من أهل دار الإسلام لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ودماؤهم وأموالهم محرمة، بل نحن بالعكس مطلوب منا أن نقاتل حماية لدمائهم وأموالهم وأعراضهم، والمشكلة أن هناك خللا في هذا الفقه، من ناحية فقه تغيير المنكر، ومتى يغير الإنسان المنكر بالقوة؟ وهل كل واحد يرى شيئا يعتبر أنه منكر يغيره بالقوة، مع أن هذا الشيء ليس عليه إجماع. تغيير المنكر - هم يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»؟ > لهذا شروط، أولاً أن يكون منكرًا، ومعنى أن يكون منكرًا أي أن يكون متفقًا على أنه منكر، فلو كان أمرًا مختلفًا فيه، فإن العلماء قالوا: لا إنكار في المسائل الخلافية، أو الاجتهادية، ولو افترضنا أنني أقول: الغناء حلال وأنت تقول: حرام، فليس لك الحق في أن تقول هذه حفلة غناء وتحطمها، فالأشياء التي فيها خلاف لا يجوز إنكارها خصوصًا بالقوة. - لو كانت مثلاً مسرحًا تقوم عليه راقصة ترقص شبه عارية، هل للشباب أن يغيروا هذا؟ > أنا لم أكمل الشروط، فلابد أولاً: أن يكون هذا المنكر متفقًا عليه، وثانيًا لابد أن ترى المنكر أمامك لا أن تتجسس عليه، فإذا كان هذا المسرح مغلقًا فليس مطلوبًا منك أن تدخل هذا المسرح، ثم ثالثًا لابد أن تكون لديك قدرة على تغيير المنكر، فليس كل شخص بقادر. ثم لو فرضنا أن هناك منكرا تحميه الدولة أو كان المنكر من الدولة نفسها، وأنت إذا غيرت المنكر هذا وقعت في مصادمة الدولة،، فما الحكم في هذه الحالة؟ لذا من الشروط أيضا: ألا يزال المنكر بمنكر أكبر منه، فإذا كنت ستذهب لمحل فيديو وتتسبب في قتل بعض الناس، وسجن آخرين، وتشريد بعض الأسر، فهذا ليس مطلوبًا منك، وإذا كان تغيير المنكر يصادم الدولة، فليس كل إنسان قادرًا على أن يصادم الدولة، فكما يقول الإمام أحمد: لا تتعرض للسلطان فإن سيفه مسلول. - يقولون نستعين بالله؟ > المنكر الذي تحميه الدولة يزول بأحد أسباب ثلاثة حسب موازين عصرنا، فإما أن يكون عندك قوة في الجيش، فالقوات المسلحة هي القادرة على أن تغير النظام، إنما ما حدث من مجموعة مثل مجموعة الفنية العسكرية في مصر قبل عدة عقود لا يعدو أن يكون أفكارا صبيانية، خصوصًا في البلاد الكبيرة فليس من السهل أن تسيطر على القوات المسلحة. الأمر الثاني: أن تسيطر على الشعب، أي أن يكون الشعب معك، مثل الخوميني في إيران، فالشاه كان متحكمًا ومتسلطًا ومؤيدًا من الأمريكيين ولديه جيش وجهاز مخابرات متمكن «السافاك»، لكن الخوميني استطاع أن يحرض الشعب حتى أصبح الشعب في جانبه؛ يدعو إلى مظاهرة فتخرج بالملايين، ووقف الشعب في ناحية والجيش في ناحية، وظلوا يقتتلون عدة أيام، لكن لا يمكن لأي جيش في الدنيا أن يستمر في قتال أهله وشعبه، فبعد مدة استسلموا، وهذا ما يسمى الثورة الشعبية. الأمر الثالث هو التغيير عن طريق ما يسمى الديمقراطية، أي عن طريق المجالس النيابية، حيث ترشح نفسك للانتخابات، وإذا كان لديك قبول شعبي تأخذ أغلبية، وبهذه الأغلبية تستطيع أن تغير في التشريعات لإزالة المنكر. مراجعات العنف - بعض الشباب المتحمس في فترة من الفترات، خصوصًا في مصر، أقدموا على قتل السياح، فما حكم قتل هؤلاء السياح؟ > هذا أيضًا ناشئ من الخلل في فقه الجهاد، فهم فهموا أن كل شخص غير مسلم مستباح الدم، وهذا أثبتنا أنه خطأ، وأن الكفر وحده ليس علة كافية موجبة لقتل الناس، حتى الفقهاء قالوا إن الحربي، أي الذي ينتمي إلى قوم بينهم وبين المسلمين قتال، إذا دخل بلاد المسلمين لتجارة أصبح مستأمنًا، أي طالبًا للأمان، فإذا أعطيته الأمان فلا يجوز أن تمسه بأي سوء، ولو أعطته الأمان امرأة كما فعلت أم هانئ، حيث أعطت بعض أحمائها، أقارب زوجها، الجوار، وأراد أخوها علي بن أبي طالب أن يمسهم بسوء، فاشتكت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: «قد أجرنا من أجرتي يا أم هانئ»، وإذا كان هذا بجوار امرأة، فكيف بمن أخذ تأشيرة من الدولة؟ - هذه الدولة يعتقد هؤلاء الشباب أنها كافرة؟ > حتى لو أنها كافرة، فهي التي تحكم الناس، وهذا الشخص دخل بأمان ويعتقد أنه آمن في بلاد إسلامية، فلا يجوز بحال من الأحوال المساس به، ولذلك أنا أيام مذبحة الأقصر الشهيرة خطبت خطبة معروفة أنكرت فيها ذلك أشد الإنكار؛ لأن هذا يسيء إلى سمعة الإسلام والمسلمين، فما ذنب رجل سويسري أو ياباني كي تقتله وهو قادم ليشاهد بلادنا، هذا خلل في فقه الجهاد والعلاقات بين الناس، وخلل في فقه الخروج عن الحكام، وخلل في فقه تغيير المنكر، وخلل في فقه التكفير، هذه أنواع خمسة من الخلل أدت بهذا الشباب لأن يقع في هذه الأخطاء أو الخطايا، ومما نحمد الله عليه أن هؤلاء الشباب أو أكثرهم أو الاتجاه العام فيهم، تنبه إلى خطئه. - وهل توافقونهم على هذه المراجعة؟ > طبعًا، وأنا دعوت بمناسبة مراجعات الجماعة الإسلامية بمصر، دعوت الجماعات الأخرى أن تلحق بهم، وبعد ذلك لحقت بهم جماعة الجهاد في مصر، والدكتور سيد إمام، ودعوت القاعدة نفسها لأن تراجع نفسها، والإنسان مهما كان ليس معصومًا، فكل واحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر كما قال سيدنا مالك، وهو يشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فكل إنسان ينبغي أن يراجع نفسه خصوصًا إذا وجد أن الناس من حوله تنكر عليه، فهل كل هؤلاء الناس مخطئون وهو وحده المصيب، فهذه المجموعة، الأخ ناجح إبراهيم وإخوانه، لا شك أنها أخلصت حينما نظرت في فقهها بحياد وموضوعية، واعترفت بأنها أخطأت في هذه الطريق، وهذا مما ينبغي أن نشجعه ونسدده، ونثني على أصحابه فليس هناك أفضل من أن يستدرك الإنسان على نفسه.