عبد الحق التازي واحد من أول دفعة مهندسين استقبلهم مغرب ما بعد الاستقلال، ليجد نفسه يُهندس سياسات المغرب إلى جانب الحسن الثاني، بدءا من وضع أول تصميم خماسي للمغرب المستقل، إلى الانغماس في السياسة والوزارة، فكان شاهدا على مغرب ما بعد الاستقلال، بكل الآمال التي عقدها المغاربة عليه، والآلام التي تكبدوها من جراء الاصطدام بين القصر والحركة الوطنية. فوق «كرسي الاعتراف»، يكشف عبد الحق التازي العديد من التفاصيل الصغيرة التي كانت فاعلة في قرارات كبيرة، وظلت طي الكتمان، خصوصا وأنه جمع، بتناغم كبير، بين انتمائه إلى حزب الاستقلال وقربه من الحسن الثاني الذي ظل على اتصال دائم به في عدد من الملفات الدقيقة والحارقة، أيام كان التازي كاتبا للدولة في الشؤون الخارجية. بتلقائية كبيرة، وبدون لغة خشب، يتحدث التازي عن الحسن الثاني الذي أعلن للاستقلاليين أنه ينتمي إلى حزبهم، وعن «صفقات» حزب الاستقلال مع القصر، مثل تأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، والاتحاد العام لطلبة المغرب، وما راج عن قبول الحزب تزوير انتخابات 1977، وكيف هدد أوفقير باغتيال علال الفاسي الذي رفض استقلال موريتانيا عن المغرب، وحقيقة اختيار الحسن الثاني امحمد بوستة خلفا لعلال الفاسي، والعديد من الخبايا التي لا تتوقف عند تجربة التناوب بل تتجاوزها إلى ما يعيشه حزب الاستقلال حاليا وإلى من «صنع» حميد شباط. – من مِن أعضاء حزب الاستقلال، الذين كانوا مقربين من المهدي بنبركة، آثروا البقاء في الحزب عندما أسس بنبركة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 1959؟ كثيرون، منهم مفتش حزب الاستقلال بآسفي (يحاول تذكر اسمه). لا تنس أن بنبركة كان هو الرئيس الفعلي للحزب، فأنا، عندما كنت أرأس الطلبة الاستقلاليين في باريس، كان رئيسي المباشر هو المهدي، الذي كنتُ أسميه بالدينامو؛ وقد كان يحظى بثقة كل الاستقلاليين، لكن عندما ظهر أن له خلافات مع جيل علال الفاسي، ثم عندما أصبح ينتقد علال الفاسي نفسه، فهمنا أنه أراد أن «يهرّس الحركة» (يشق الحزب)، لأن هؤلاء الذين قادوا الانشقاق داخل حزب الاستقلال، بالرغم من أنهم يصفون أنفسهم بالتقدميين، فإنهم كانوا في الحقيقة «Les alliés objectifs du palais» (الحلفاء الموضوعيين للقصر) في تكسير وتشتيت الحركة الوطنية. – تقصد أن بنبركة ورفاقه ترجموا إرادة القصر في شق حزب الاستقلال بدون تنسيق معه؟ أو بتنسيق مع القصر. – لكن رغم كل ما قلته عن المنشقين عن حزب الاستقلال، فأنت تنظر بتعاطف كبير إلى تجربة حكومة عبد الله إبراهيم. في هذا الصدد، هل يمكن اعتبار إقالة هذه الحكومة إعلانَ تراجع عن ميثاق العرش والحركة الوطنية؟ — هذا التراجع بدت ملامحه قبل ذلك، ولكن الأيام والأحداث ستؤكده. وكما سبق الذكر، لم يكن محمد الخامس متفقا على عدد من اختيارات ولي العهد (الحسن الثاني)، ولاسيما تلك المتعلقة بالموقف من الحركة الوطنية، ولكن يبدو أنه قد خضع لضغوطه في هذه المرحلة، وفي المقابل ترأس بنفسه الحكومة الموالية وعهد بالنيابة عنه إلى ولي العهد مولاي الحسن. وقد شارك حزب الاستقلال في هذه الحكومة الخامسة (من 27 ماي 1960 إلى 16 ماي 1961) بالأخوين امحمد الدويري في وزارة الاقتصاد الوطني والمالية وامحمد بوستة في وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، والتحق بهما الأستاذ عبد الخالق الطريس وزيرا للعدل في شتنبر 1960. – قبل الحديث عن الحكومة التي ترأسها محمد الخامس وشارك فيها حزبكم، دعنا نقف عند انتفاضة 1958 – 1959، التي حملت عدة جهات المسؤولية عنها للحسن الثاني وحزب الاستقلال، وهي الأحداث التي عجلت بإسقاط حكومة عبد الله ابراهيم… (مقاطعا) قبل الحديث عن أحداث الريف، كانت هناك أحداث عدي أوبيهي (في 1957). حينها، كنت أنا طالبا في باريس، وكنت أستمع إلى إذاعة فرانسا الدولية «R.F.I» التي استضافت وزير الداخلية المغربي لحسن اليوسي؛ وفي لحظة ما، سأل الصحافي الفرنسي الوزير المغربي عن الدوافع التي جعلته يحشر نفسه في هذه الأحداث، فأجابه لحسن اليوسي قائلا: أنا لم أقم بأي شيء من تلقاء نفسي، بل تلقيت تعليمات من مولاي الحسن لكي أقوم بما قمت به.. – ما هي التعليمات التي تلقاها وزير الداخلية من ولي العهد (الحسن الثاني)؟ تعليمات «باش يضرب حزب الاستقلال». القصر كان يعتبر أن حزب الاستقلال عدوَّه الأول الذي يسعى إلى الإطاحة بالملكية، لأن الحسن كان يرى أن تنظيم الحزب كله بيد المهدي بنبركة، وأن هذا الأخير يتبنى موقفا ثوريا، ويسعى إلى إزالة الملكية… – لكن، ما علاقة أحداث عدي أوبيهي بضرب حزب الاستقلال؟ عدي أوبيهي قال إنه تسلم السلاح من وزير الداخلية، وعدي أوبيهي مجرد عميل. – لنعد. في 1958 بدأت أحداث الريف التي تعرض فيها الريفيون لاعتداءات غير مسبوقة. وفي الوقت الذي يتهمكم فيه مؤسسو الحركة الشعبية بالوقوف وراء اندلاع هذه الأحداث، اتهمتموهم أنتم بدوركم بالتورط فيها. الحسن الثاني، من جهته، أكد دوره في ما تعرض له الريفيون، في خطابه الشهير لسنة 1984. ما تعليقك؟ الحسن الثاني كان عنصرا مهما جدا في هذه الأحداث.. لقد كان يكره بشدة كل الذين يعتزون بشخصيتهم وتاريخهم ومكانتهم وتميزهم. وتصدى بمعية أوفقير للريفيين «باش يهرس لهم الراس السخون». ورغم كل ما حدث في 1958 – 1959 بالريف، فقد عاد الحسن الثاني في 1984 ووصف الريفيين بالأوباش. – وما هي القيمة المضافة التي قدمها وزراء حزب الاستقلال في هذه الحكومة التي جاءت في أعقاب حكومة عبد الله ابراهيم؟ لقد سعت هذه الحكومة إلى إنجاز عدد من المكاسب للبلاد، فالفكر الوطني ظل مع ذلك مؤثرا، وكان الملك وولي عهده قد اختارا، على الخصوص، التوجه الليبرالي والانفتاح على العالم والميل إلى موالاة المعسكر الغربي في الحرب الباردة التي استقرت طيلة الفترة الموالية للحرب للعالمية الثانية؛ ولكن على المستوى الداخلي، تأخر إرساء أسس البناء الديمقراطي؛ وأعقب الوفاةَ المفاجئة لمحمد الخامس في 26 فبراير1961 مسلسلٌ من التغييرات الحكومية التي تعكس، في الحقيقة، حالة من عدم الاستقرار، فمتوسط عمر الحكومات كان قصيرا؛ وباستثناء الحكومة السادسة (من 16 ماي 1961 إلى 2 يونيو 1961) والحكومة السابعة (من 2 يونيو 1961 إلى 5 يناير 1963)، لم يشارك الحزب طيلة هذه الفترة التي امتدت من 1961 إلى غاية حكومة أكتوبر 1977 عقب تشريعيات يونيو 1977، وقبلها المسيرة الخضراء في 6 نونبر 1975؛ ففي الحكومة السادسة، تولى الدويري وزارة الاقتصاد الوطني والمالية، وبوستة وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري؛ وفي الحكومة السابعة، تولى علال الفاسي بإلحاح من الحسن الثاني وزارة الشؤون الإسلامية، واستمر الدويري وبوستة في وزارتيهما. وفي خضم التعديلات الكثيرة التي كان يجريها الحسن الثاني على حكوماته، أبدى رغبته في تخلي الدويري عن وزارة المالية بتنقيله إلى الأشغال العمومية، الأمر الذي لم يتقبله الزعيم علال الفاسي رغم استعداد الدويري للقبول به.