انتهت تلك الأيام المجيدة التي كان الناس فيها يسخرون من الزكام ويعتبرونه مرضا صديقا وضيفا خفيفا يرحل بسرعة. الآن أصبحت الحكاية مختلفة، وأي شخص يسيل أنفه هذه الأيام يعتبر مرشحا للدفن، والمرض لا يرحل بسهولة ويصر على أن يرحل المريض معه. لكن قضية «أنفلونزا الخنازير» غريبة، والناس حائرون ما بين تصديق النظريات الطبية التي تقول إن هذا المرض ظهر فجأة وبدون مقدمات ويهدد الملايين من البشر، وما بين النظريات التي تقول إنه مرض ظهر في دهاليز الاستخبارات وأقبية القواعد العسكرية. يعني أنه سلاح للتدمير لا يختلف في شيء عن الصواريخ والأسلحة الكيماوية والنووية. كيف سنكتشف الحقيقة إذن؟ في هذه الحالة تكون العودة إلى التاريخ ضرورية لكي نفهم بعض ما يجري هذه الأيام. منذ أن ظهرت البشرية، ظهرت معها الحروب والتوترات. ومنذ أن قتل قابيل أخاه هابيل، فإن الناس ظلوا يبحثون باستمرار عن الوسائل الأكثر ذكاء ونجاعة لقتل بعضهم البعض. تحارب البشر في البداية بالأحجار والعصي، ثم شحذوا الأحجار وتقاتلوا بها، وبعد ذلك تم اكتشاف النار وشحذت بها المعادن وتحولت إلى أسلحة خطيرة كالسيوف والرماح والنبال. بعد ذلك تم اكتشاف البارود، فأصبح ضحايا الحروب أكثر بكثير من ذي قبل ولم يعد المتحاربون ملزمين بالمواجهة المباشرة، بل صار كل واحد يرمي باروده على الآخر. ثم ظهرت الصواريخ التي تقتل عن بعد، ثم جاءت الطائرات التي تحلق بعيدا في الفضاء وتمطر الناس بالموت والدمار، وأصبحت الحروب لا يربحها الأكثر شجاعة، بل يفوز بها الأكثر وحشية والأكثر نذالة. البشر لم يتوقفوا عن اكتشاف كل ما من شأنه تمكينهم من تدمير بعضهم البعض، وجاءت الاكتشافات الأكثر رعبا وهي الأسلحة الكيماوية والنووية. الأسلحة الكيماوية تقتل أي شيء يتحرك، بما فيه النبات والنمل تحت الأرض، والأسلحة النووية لو انفجر عدد منها فقط في وقت واحد فستنتهي حكاية الكرة الأرضية. الذين يتسابقون لاكتشاف أشرس وسائل الدمار يشبهون تماما المجرمين الذين يحاولون دائما أن تكون جرائمهم كاملة، أي أن تقتل القتيل ولا أحد يشير إليك بالتهمة. والمشكلة حاليا هي أن الجميع يعرف من يلقي القنابل ومن يستعمل الأسلحة الكيماوية ومن يملك الأسلحة النووية ومن يستخدمها، لذلك أصبح من الضروري اكتشاف أسلحة دمار شامل لا أحد يعرف من استعملها، وهذه الأسلحة عبارة عن أوبئة قاتلة تظهر في الشعوب وتقتلها عن بكرة أبيها، ثم يسمي الناس ذلك وباء، ولا أحد يكتشف القاتل بعد ذلك. مثلا، عندما تريد دولة أن تحارب بلدا آخر، فلن تكون بحاجة إلى إعلان حرب ولا إلى حشد ترسانتها الحربية ولا إلى تسليح الملايين من عساكرها، بل تقوم فقط بزرع وباء بين شعب الدولة المعادية، فيموت الملايين، وتنتهي الحرب من دون إطلاق رصاصة واحدة.. إنها الحرب الأكثر صمتا في التاريخ، ولن يشهد العالم ولو مظاهرة واحدة لإدانة الحرب، لأنه لم تكن هناك حرب بالمرة، بل وباء فقط، والوباء قضاء وقدر أو هذا ما سيعتقده الناس. الناس يشكّون اليوم في «أنفلونزا الخنازير» لأسباب كثيرة: أولا، لأنها ظهرت أول مرة في المكسيك، يعني بجوار الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن الطبيعي جدا أن يشك الناس فيها ويقولوا إن «أنفلونزا الخنازير» وباء حربي أكثر مما هو وباء عادي. على مر تاريخ البشرية، ظل الحلم الأول والأخير للقتلة هو الوصول إلى الجريمة الكاملة، والسلاح الأفضل للوصول إلى الجريمة الكاملة هو الوباء. القتيل فيه معلوم والقاتل مجهول.