هل أصبحت الحركات التصحيحية داخل الأحزاب موضة العصر، يسير على إيقاعها كل من غضب في اجتماع حزبي أو فشل في الحصول على «غنائم انتخابية»؟ مناسبة هذا السؤال هي ما باتت تعرفه الأحزاب السياسية المغربية من انشقاقات وتهديد بالانشقاق، وتفريخ أحزاب سياسية جديدة تنضاف إلى مشهد معطوب أصلا. بعد زمن قصير من انتصار شباط التاريخي على آل «الفاسي»، خرج الغاضبون من نتائج المؤتمر ليؤسسوا تيارا جديدا داخل حزب علال، ولم يصدق الاستقلاليون ولا المتابعون للشأن السياسي المغربي ما يجري، فما استطاع الاستقلال أن يحميه طوال عقود انهار بتأسيس حركة «بلا هوادة» التي شنت حربا قضائية وسياسية على الموالين لشباط. فرغم كل الإرث السياسي للاستقلاليين ورغم مقولة «للاستقلال رب يحميه»، التي توارثها الاستقلاليون، فإن ذلك لم يمنع من ولادة ما سمي بالحركة التصحيحية. على نفس المنوال، سار حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لكن المؤسسين لتيار الديمقراطية والانفتاح اختاروا طريقا آخر، وهو تأسيس حزب سياسي جديد محدثا شرخا كبيرا في حزب «بوعبيد»، آخر فصوله حملة التطهير التي قادها إدريس لشكر ضد معارضيه في المجلس الوطني والمكتب السياسي. قد نفهم أن قدر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يعيش على إيقاع الانقسام، فهذه ليست المرة الأولى التي يخرج فيها «الرفاق» من مؤتمراتهم منشقين: حدث ذلك مع محمد الساسي ومع عبد الكريم بنعتيق، لكن ما ليس مفهوما أن تتحول الحركة التصحيحية إلى أداة لإعادة نفس الأعطاب، والدليل أن خلافات جوهرية بدأت تظهر من داخل التيار نفسه. يتكرر السيناريو تقريبا بنفس التوجهات وبنفس التصورات وبنفس مقدار الغضب الذي ساور التيارات المتناحرة في أحزاب الحركة الوطنية، وخرج من رحم حزب الحركة الشعبية تيار يقول إنه يتوفر على تصور لإصلاح الحزب، ولأول مرة يخرج سعيد أولباشا، الوزير السابق، عن صمته ليقول إن العنصر يحمي وزيرا أدانته كل التقارير وإن الإصلاح أصبح ضرورة ملحة. كل التيارات المنشقة أو التي في طريق الانشقاق تقول نفس الكلام وتتحدث عن نفس «داء العطب» بل وتحس في أحيان كثيرة، ورغم اختلاف السياقات، أن اللغة التي يتحدث بها الغاضبون الملتئمون في الحركات التصحيحية متشابهة ومستنسخة بطريقة تبعث على التفاؤل. الحركات التصحيحية في التجربة السياسية المغربية ارتبطت دائما بلحظتين، تتعلق الأولى بانتهاء أشغال المؤتمرات الوطنية مع ما يرافقها من حسابات الربح والخسارة، وهي الحسابات التي غالبا ما تفسر ب«حدوث تزوير وتدخل جهات خارجية للتحكم في الحزب» وإن لم نسمع يوما مسؤولا من داخل هاته الحركات يتحدث بفصاحة عن طبيعة التزوير ولا الجهات التي تدخلت. أما اللحظة الثانية فترتبط باقتراب المواعيد الانتخابية، حيث تشتعل حرب الأمتار الأخيرة حول التزكيات والبحث عن المكاسب الانتخابية. إذا استثنينا القليل ممن يتوفرون على مشروع حقيقي لإصلاح أحزابهم السياسية، فإن ما يجمع اللحظتين هو شيء واحد: التنافس حول المواقع السياسية والانتخابية، ومن خرج خاسرا في لعبة التموقع يبحث عن عزاء آخر إلى درجة أن الحركات التصحيحية صارت أمرا مستسهلا جدا، فكلما اشتد التدافع السياسي ظهرت حركة جديدة. يقينا أن الأحزاب السياسية المغربية لا تمتلك آلية لتدبير الخلافات الداخلية بالنظر إلى طبيعة التسيير «اللاديمقراطي» الذي يطغى على كل هياكلها، مما يؤشر على عدم وجود أفكار واستراتيجيات تتصارع، بل إن المصالح هي التي تتصارع في الأخير. لقد بدا ذلك واضحا داخل حزب الاستقلال. أين كانت حركة «بلا هوادة» حينما كان الفاسيون يحكمون قبضتهم على الاستقلال، ألم يقل إسماعيل العلوي إن حزب الاستقلال كان يسجل ضحايا النجاة الإماراتية في مكاتبه الجهوية، ثم لماذا لم يعترض أعضاء تيار الديمقراطية والانفتاح على انتخاب إدريس لشكر كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ولم صافح أحمد الزايدي رحمه الله لشكر عشية الإعلان عن النتائج، ولماذا ارتكن الحركيون إلى الصمت حتى اقترب موعد الانتخابات؟ نحن لا نريد القول إن كل المنتمين إلى الحركات التصحيحية تجمعهم المنافع، لكن ما نريد قوله إن هاته الحركات لم تقدم خلال عشر سنوات بديلا منطقيا وواقعيا لعلاج الأمراض السياسية للأحزاب، وكان ملاحظا أن هاته الحركات فشلت في حشد الدعم من داخل الحزب وغالبا ما تنتهي إلى إصدار بيانات تنديدية. وحده تيار الديمقراطية والانفتاح انتقل إلى مرحلة التأسيس بقيادة المرحوم أحمد الزايدي، لكن بدا واضحا جدا أن التيار لم يقدر على مواصلة الصراع من داخل هياكل الاتحاد وآثر الانتقال إلى مرحلة إنشاء حزب سياسي جديد. الحركة التصحيحية في المبادئ الديمقراطية البسيطة توحي بأن هناك وضعا شاذا ينبغي إصلاحه، والإصلاح السياسي للأحزاب لم يكن يوما مقرونا بإصدار البيانات التنديدية أو استغلال اللحظات السياسية من أجل تموقع جديد أو لي ذراع الآخرين، إنما بامتلاك الجرأة اللازمة للقول: إن ما يحدث يحتاج إلى ثورة عميقة.. ودون ذلك سيبقى «التصحيح» مجرد شعار للاستهلاك إلى إشعار آخر. الحركات التصحيحية داخل الأحزاب السياسية وقيمتها المضافة الغالي: الحركات التصحيحية لن تخرج عن ثقافة الأحزاب التقليدية خديجة عليموسى تمر بعض الأحزاب السياسية بأزمات داخلية وصراعات تنذر بانشقاقات وتصدعات بفعل بروز حركات تصحيحية داخلها تطالب برحيل بعض الرموز عن القيادة، بسبب الاختلاف حول سبل وطريقة تدبير الهيئة السياسية، كما هو الشأن بالنسبة لحزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الحركة الشعبية التي تشهد حركة تصحيحية تطالب برحيل القيادة، في الوقت الذي اختار فيه تيار الانفتاح والديمقراطية داخل حزب «الوردة» المغادرة وتأسيس حزب جديد سيخوض غمار الانتخابات الجماعية المقبلة. لم تكن الحركات التصحيحية وليدة اللحظة أو بالمعطى الجديد في المشهد السياسي، بل عرفتها الأحزاب على مر التاريخ وهو ما ساهم في تغيير الخريطة السياسية وارتفاع عدد الهيئات السياسية، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو هل لهذه الحركات قيمة مضافة يمكن أن تنعكس إيجابا على المشهد السياسي؟ أم سيكون مآلها كسابقاتها وهو ما سيؤثر على صورة الأحزاب السياسية لدى الرأي العام؟ إن السياق العام الحالي ليس في صالح الأحزاب السياسية التي يؤدي وضعها إلى نشوء تيارات وحركات تصحيحية، على اعتبار أن المواطن يتساءل عن جدوى هذه الخطوات التي تظهر هنا وهناك، في الوقت الذي ما زال لم يقتنع بطبيعة العروض التي تقدمها الأحزاب القائمة، فبالأحرى الأحزاب الحديثة، يقول محمد الغالي، أستاذ العلوم السياسية بمراكش، في تصريح ل«المساء» الذي أشار إلى أن الأحزاب التي تنشأ في إطار الحركات التصحيحية لا تخرج عن ثقافة الأحزاب التقليدية. إن بروز الحركات التصحيحية داخل الأحزاب السياسية تأتي نتيجة أزمة تواصل داخلها وبسبب الركود التي تعرفه الهيئات السياسية التي تنتج خطابا «عقيما» ولا تجد من يتفاعل معه، فضلا عن غياب الديمقراطية التي تظل مطروحة داخل الأحزاب المغربية، يضيف الغالي، الذي ذكر أن هذه الحركات تخرج إلى حيز الوجود بعدما تعجز الأحزاب عن تدبير الصراع والخلافات الداخلية من لدن قيادة الحزب، التي تسير قناعات سياسية وآراء وتصورات مختلفة، وعندما لا تستطيع، هذه القيادة، تأطير كل الأفكار التي تظهر فإن ذلك يؤدي بشكل تلقائي إلى بروز هذه الحركات والتيارات. ولعل المتأمل في الطريقة التي تنبثق بها التيارات والحركات التصحيحية داخل الأحزاب السياسية، ليلحظ أن بعضها ليس محركه البحث عن الديمقراطية أو تقويم اعوجاج أو انحرافات القيادة الحزبية التي تمسك بخيوط المسؤولية، بل تكون دوافعها في كثير من الحالات البحث عن الزعامة والتموقع داخل الهيئة الجديدة بعدما لم تستطيع الوصول إلى مراكز القرار داخل حزبها، وهو ما ينعكس على صورة الأحزاب لدى الرأي العام ويزيد من حدة العزوف الذي ينخر المشهد السياسي المغربي والمتربص بالانتخابات المقبلة، حيث كشف استطلاع للرأي أنجزه معهد «أفيرتي» و مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، أن الانتخابات المقبلة قد تشهد عزوفا عن التصويت بسبب لامبالاة فئة عريضة من المواطنين بهذه الاستحقاقات، إذ إن 27 في المائة من بين المستجوبين أكدوا عدم مشاركتهم في التصويت مقابل 44 في المائة من المرتقب إدلاؤهم بأصواتهم، في حين أن حوالي 28 في المائة لم يحسموا قرارهم بعد. إن هذا العزوف المرتقب سيزيد من تفاقم الوضع داخل الأحزاب السياسية التي تطمح إلى الحصول على أعلى الأصوات خلال الانتخابات الجماعية المقبلة. رغم ظهور الحركات التصحيحية التي سوف «لن تغير من بنية الأشياء، حيث ستستمر نفس الممارسات والسلوكيات ونفس المنطق الذي كان يتحكم في الأمور»، يقول أستاذ العلوم السياسية، متسائلا عن البديل الذي تطرحه الحركات التصحيحية، هل يتعلق بمرجعية الحزب التي تعكسها قوانينه الأساسية وأنظمته الداخلية، أم أنها تتعلق بطريقة إدارة وتدبير هذه الأحزاب؟ جناتي : هناك تحركات ومخاضات وزوابع داخل الأحزاب لا تعدو أن تكون ابتزازا سياسيا قال إن الانشقاق داخل الأحزاب أصبح ماركة وطنية مسجلة يرى محمد جناتي، أستاذ العلوم القانونية والإدارية والسياسية بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بتازة، أن مجموعة كبيرة من الأحزاب المغربية يطغى داخلها السلوك الأناني، وتغيب فيها الآليات الديمقراطية الداخلية، ويضيق صدر المسؤولين الحزبيين عن تقبل الرأي الآخر، فيعجزون عن تدبير الخلافات الداخلية، خاصة أن غالبية الأحزاب لم تنخرط سوى حديثا في المسار الفعلي للدمقرطة. وأضاف جناتي أن الأحزاب المغربية تعاني كذلك من غياب نخب متشبعة بالفكر الديمقراطي، قادرة على تأطير المنخرطين ونشر قيم الحوار والمواطنة والتداول السلمي على مناصب المسؤولية داخل الحزب. وعزا المتحدث ذاته أسباب هذا التشرذم إلى غياب أو عدم تحكيم الديمقراطية الداخلية كآلية لحل الخلافات، وبالتالي سيادة نهج بيروقراطي حينا أو شيوع الوصاية الحزبية حينا آخر. حليمة بوتمارت -كيف تنظر إلى الحركات التصحيحية التي ظهرت في الآونة الأخيرة داخل الأحزاب كان آخرها الحركة التصحيحية داخل حزب الحركة الشعبية؟ في السنوات الأخيرة اتسم الحقل السياسي الوطني بتكريس ظاهرة الحركات التصحيحية، التي تنبثق من داخل التنظيمات السياسية لاعتبارات شتى. هذه الحركات التصحيحية نشأت في ظروف معينة، واتسمت بالتمرد على القيادات الحزبية القائمة. وتتجلى أبرز مطالب هذه التيارات الثائرة في عقد مؤتمر استثنائي لانتخاب مسيرين جدد للحزب، بعد أن يتم، في غالب الأحيان، اتهام الكاتب الأول بالاستبداد واحتكار مؤسسات الحزب وغياب تدبير شفاف للشؤون الإدارية والمالية. وهكذا، وفي خضم التحولات التي عاشها الحقل السياسي الوطني منذ سنة 2008، والتي اتسمت ببروز تنظيم جديد يتجلى في حزب الأصالة والمعاصرة، نشأت حركة تصحيحية داخل حزب التجمع الوطني للأحرار، انتفضت ضد قيادة الحزب. وبعد انتخاب أمين عام جديد لحزب الاستقلال، انقسم الحزب إلى تيارين، وتم الإعلان عن تيار جديد يحمل اسم «لا هوادة»، ما زال مؤسسوه يؤكدون أنهم سيواصلون معركتهم بالطرق السلمية والحضارية ضد القيادة الجديدة للحزب. وأعلنت مجموعة من المناضلين، الذين خرجوا غاضبين من المؤتمر الوطني التاسع لحزب الاتحاد الاشتراكي، عن تأسيس تيار داخل الحزب للتعبير عن مواقفه، انتهى به المطاف إلى الانشقاق عن الحزب الأم وتأسيس حزب جديد. وظهر تمرد داخلي داخل حزب التقدم والاشتراكية، إبان فترة انتخاب كاتبه الأول الحالي، سرعان ما تم إخمادها في المهد عبر توافقات داخلية. كما ظهر تيار تصحيحي مؤخرا داخل حزب الحركة الشعبية، ظلت القيادة داخل الحزب تقلل من حجمه ووزنه. - هل ترى أن هذه الظاهرة التي يعرفها المشهد المغربي صحية؟ ظهور حركات وتيارات داخل الأحزاب تتوخى تصحيح ما تعتبره من وجهة نظرها انحرافا عن المبادئ الكبرى للحزب هو أمر محمود، بل ضروري لإرجاع الثقة إلى المواطنين في الأحزاب وفي العمل السياسي ككل. لكن ظهور هذه الحركات التصحيحية والانشقاقية يعبر، من جهة أخرى، عن ضعف تدبير الخلافات والصراعات الداخلية للأحزاب، كأن هاته الأخيرة تفتقر إلى رجال راشدين يضعون حدا لهذا للنزيف. فالانشقاق أصبح ماركة وطنية مسجلة، وينتج عنه التكاثر والتناسل إلى حدّ التشرذم، كما وقع في العديد من الأحزاب والنقابات المغربية الكبرى. إذ كثيرا ما تتعطل لغة الحوار الهادئ وتحل محلها لغة السب والشتم والعنف اللفظي والمادي، ويصل الأمر حد التخوين .تلك صورة جد مختزلة لواقع الصراع في الحياة السياسية المغربية. - وماهي الأسباب التي أدت إلى بروزها؟ في بعض الأحيان، وفي حالة بعض الأحزاب المغربية ذات التاريخ النضالي الطويل، يبدو الأمر مرتبطا بحركة عادية وطبيعية قياسا بدينامية العمل داخل الحزب في حد ذاته، الهدف منها لفت الانتباه إلى وجود اختلالات معينة وتجاوزات تسيء إلى سمعة الحزب وتوجهه السياسي، والدعوة إلى معالجة مكامن الخلل وتجاوز النقائص. وفي أحيان أخرى، يرجع سبب ذلك إلى ردود أفعال تتسم أحيانا بالحدة في اتجاه «قلب الطاولة» على القيادة الحزبية. لذلك نقول إن هناك حركات تنشد التصحيح فعلا داخل الأحزاب التي تنشأ داخلها، لكن هناك أيضا تحركات ومخاضات وزوابع داخل الأحزاب لا تعدو أن تكون ابتزازا سياسيا نتيجة عدم تقاسم امتيازات معينة بطريقة مرضية للجميع. - هل يمكن القول بأن غياب ديمقراطية داخلية وعدم وجود نخب قادرة على التعامل الديمقراطي يبقى عاملا حاسما في ظهور هذه الحركات؟ هذا الأمر وارد، وتعاني منه مجموعة كبيرة من الأحزاب المغربية، حيث يطغى السلوك الأناني وتغيب الآليات الديمقراطية الداخلية، ويضيق صدر المسؤولين الحزبيين عن تقبل الرأي الآخر فيعجزون عن تدبير الخلافات الداخلية، خاصة أن غالبية الأحزاب لم تنخرط سوى حديثا في المسار الفعلي للدمقرطة. الأحزاب المغربية تعاني كذلك من غياب نخب متشبعة بالفكر الديمقراطي، قادرة على تأطير المنخرطين ونشر قيم الحوار والمواطنة والتداول السلمي على مناصب المسؤولية داخل الحزب. ومن بين أسباب هذا التشرذم كذلك غياب أو عدم تحكيم الديمقراطية الداخلية كآلية لحل الخلافات، وبالتالي سيادة نهج بيروقراطي حينا أو شيوع الوصاية الحزبية حينا آخر. إن مؤسسي الحركات التصحيحية، الناشئة مؤخرا في بعض الأحزاب المغربية، الذين انتفض البعض منهم ضد الفساد الداخلي للحزب وجدوا أنفسهم منبوذين من طرف جميع هياكل الحزب ومهددين بتجميد عضوياتهم وبالطرد. فبعض هؤلاء الثوريين داخل الأحزاب دبّر هذا الاختلاف داخليا حفاظا على وحدة الحزب ولم يرغب في الانشقاق، واكتفى فقط بتأسيس تيارات الهدف منها تحقيق ما فشل مسؤولو الحزب في تحقيقه وتأسيس انتقال ديمقراطي داخلي ومحو فكرة الزعيم الأبدي الخالد. غير أن أحد هذه الأحزاب ذهب بعيدا في هذا الأمر، إذ في الوقت الذي اكتفى المتمردون من حزبي الحركة الشعبية والاستقلال بتأسيس حركة تصحيحية داخل الحزبين، اتجه تيار «الانفتاح والديمقراطية» داخل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى تأسيس حزب جديد. – يرى البعض أن محرك متزعمي الحركات التصحيحية هو السعي إلى تحقيق المصالح الشخصية. بعض الحركات التصحيحية داخل الأحزاب ظهرت لاعتبارات تتخذ في أغلب الأحيان طابعا ذاتيا معبرا عن طموحات شخصية لم تتحقق أو انتظارات ظلت معلقة إلى ما لانهاية أو فقدان مواقع داخل الحزب. لا يخفى على المواطن العادي أن بروز آمال وتطلعات للزعامة واحتلال المواقع سرعان ما يقود إلى خلافات تؤدي إلى الإعلان عن تيارات أو حركات تصحيحية داخل الأحزاب، تُغلّف في حالات كثيرة بالرغبة في تحقيق الديمقراطية والشفافية في تسيير الآليات الداخلية للحزب. - وما هي، في نظرك، القيمة المضافة لهذه الحركات التصحيحية؟ الحركات التصحيحية داخل الأحزاب غالبا ما تفضح المستور وتعري الانحراف الممنهج عن الآليات الديمقراطية داخل الحزب، وتبين أسباب تردّي مصداقيته، نتيجة الفضائح والسلوكيات المشينة التي تؤثر سلبا على سمعة الحزب ومكانته. إن وجود هذه التيارات داخل الأحزاب السياسية يعتبر، عموما، ظاهرة صحية تدل على الحراك السياسي وتبادل الأفكار والبرامج. كما تدل على المراقبة الداخلية للحزب ولهياكله ولمدى الالتزام بمبادئه وقوانينه ومشروعه المجتمعي وتعاقداته مع مناضليه ومع المواطنين. هذا الحراك الداخلي يعد فرصة للنقاش وممارسة كل أشكال الرقابة والتتبع والمساءلة بكل حرية وفق الاحترام المتبادل والقواعد الأخلاقية المتعارف عليها في العمل السياسي . 7- وما هو تأثير هذه الحركات التصحيحية على الأحزاب وصورتها لدى الرأي العام؟ نتوقع أن تكتسي الاستحقاقات الانتخابية المقبلة طابع الاستثناء، بالنظر إلى التصعيد غير المسبوق الذي أبانت عنه بعض الحركات التصحيحية داخل الأحزاب. غير أننا نتخوف من أن يؤثر الوضع الداخلي للأحزاب المعنية على نسبة التصويت؛ لأن المواطن المغربي قد يتردد في الذهاب إلى صناديق الاقتراع للتصويت لفائدة أحزاب فشلت في إصلاح بيتها الداخلي، ولسان حاله يقول: «كيف أصوّت لأحزاب فاشلة في نشر ديمقراطية داخلية في صفوفها، فما بالك بدمقرطة البلد بأكمله؟». الحركة الشعبية .. تمرد لإعادة توزيع المواقع مصطفى الحجري من الشكولاطة مرورا ب«الكراطة» وصولا إلي حركة تصحيحية، توالت متاعب الأمين العام لحزب «السنبلة»، الذي يختزل في شخصه وفي المقربين منه أزمة حزب، يواجه تحديا يهدد بتقليص مكاسبه الانتخابية. عدد من المتتبعين يؤكدون أن ما يقع داخل الحزب ليس حركة تصحيحية، بل محاولة لإعادة التموقع، وتوزيع خارطة النفوذ، بعد أن ظل الحزب مرتهنا ولسنين طويلة لأسماء معينة على رأسها العنصر وحليمة العسالي، وهو أمر أثار قبل وقت طويل انتقادات غاضبة ومكبوتة، ليس على مستوى عدد من القيادات التي استفادت من هذا الوضع، بل على مستوى قواعد الحزب التي نادت أكثر من مرة بضرورة مأسسة الحزب، واتخاذ القرارات بشكل ديمقراطي وشفاف، وهي النداءات التي وظفت كوعود في المؤتمر الأخير، الذي انتهى بالتجديد للعنصر كأمين عام قبل أن يبلع الوعود التي قدمها في هذا الشأن. ورغم أن أزمة الديمقراطية الداخلية بالحركة والخضوع لمنطق الولاءات للأشخاص وصل مداه بالحزب، فإن تحرك عدد من الأسماء المحسوبة على الحركة التصحيحية لا يخلو من انتهازية و»براغماتية» واضحة، تفضح السعي نحو تحقيق بعض المكاسب الشخصية، من خلال محاولة بعض الوجوه التي أصبحت متجاوزة وجربت حظها في الاستوزار والمناصب، العودة للواجهة بقوة، من خلال الدخول في لعبة لي الذراع، تحت التهديد بإحداث حزب لن يكون له أي قيمة مضافة في ظل التخمة التي يعاني منها المغرب على مستوى تعددية تحولت لنقم، عوض أن تشكل دافعا لتحفيز المواطنين على الانخراط في العمل السياسي. عدد من المتتبعين يعتبرون أن ما حدث داخل الحركة، هو مواجهة خرجت للعلن بين قيادات هرمة تدبر بقاءها بمنطق الولاءات والإرضاء، وبين أسماء تراهن على الهزات التي تعرض لها الحزب من أجل كسب نقاط جديدة، وهو أمر كان يدبر في وقت سابق داخل حزب السنبلة في الكواليس، قبل أن يقرر البعض الركوب على موضة الحركات التصحيحية، علما أن الأسماء ذاتها كانت تشغل مناصب قيادية، ولم تبادر لتصحيح الوضع أو المطالبة بإحياء مؤسسات الحزب، لكونها كانت مستفيدة من ذلك، قبل أن تستيقظ الآن، وتجد في غرق الحزب في تسيير ذاتي وشخصي وفي فضائح متتالية، فرصة ذهبية لبسط مطالبها بتزامن مع ظرفية انتخابية جد حساسة. «بلا هوادة».. من تيار لخلع شباط إلى هيئة للتنديد مصطفى الحجري من تيار ينازع في شرعية الأمين العام أمام القضاء، ويسعى لإسقاطه وخلعه، إلى مجرد جمعية تكتفي بين الفينة والأخرى بإصدار بلاغات للتنديد بقراراته وتصريحاته. هذا هو المصير الذي حشر تيار «بلا هوادة» نفسه فيه، بعد أن تأكد أعضاؤه أن الحل الوحيد لحسم الخلاف الذي جر عددا من قيادات الحزب للمحاكم في دعوى خاسرة، هو الرهان على الوقت، وعلى ما ستحمله الاستحقاقات المقبلة من نتائج قد تكون بداية لتوسع القاعدة المنادية بالتغيير. حكاية «بلا هوادة» انفلتت مع ما عرفه المؤتمر الأخير للحزب، والذي كان بإمكانه أن يكون محطة انطلاقة قوية لحزب الاستقلال لو تم تذويب الخلافات بين مرشحين تخندقا في تيارين جارفين، ما كشف أن صراع الاستقلاليين كان صراعا بين اسمين، ولم يكن صراع برامج أو تصورات مقدمة للقاعدة، وللرأي العام. صراع بين اسمين يجران وراءهما إرثا تختلف تفاصيله وتشعباته، لكنه لا يضم أي قاسم مشترك على الإطلاق، وهو ما يفسر حدة الاستقطاب التي هددت في مرحلة معينة بشطر الحزب إلى نصفين، قبل أن تقرر عدد من القيادات الانتقال من سفينة إلى أخرى تحت شعار «مع الرابح إلى أن يخسر» . حدة العداء بين الطرفين تطورت إلى اتهامات متبادلة وتراشق كلامي دون أن تنجح بعض الوساطات المحتشمة في رأب الصدع، الذي يبدو أن الأمين العام لحزب الاستقلال وضعه خلفه، لينغمس في صراعه مع حزب العدالة والتنمية حليفه السابق في حكومة انسحب منها ضمن رهان غامض في انتظار أن تكشف الأيام حقيقته وتفاصيله. حاليا علاقة الحزب بالتيار أصبحت مرتهنة للفعل ورد الفعل، تترجمه الاتهامات المتواصلة بين الطرفين، وهو ما جعل عددا من الأسماء المنتمية إلى حزب الاستقلال مشتتة بين منطق الولاء للشخص والولاء للحزب، في ظل وضع أثر بشكل كبير على رصيد الحزب وصورته لدى الرأي العام، بفعل الخرجات التي يمارسها شباط، غير أن هذا لا يعفي تيار بلا هوادة من تحمل جزء مهم من المسؤولية، لأنه فضل التراجع إلى الخلف وسياسة المقعد الفارغ، وترك مسافة مع القرارات المتخذة داخل الهيئات التقريرية عوض الانخراط في التغيير من داخل الحزب. الاتحاد الاشتراكي.. «ولادة من جسد ميت» مصطفى الحجري تسعة قرارات طرد وتشطيب دفعة واحدة، كانت عنوانا كافيا، يفضح عمق الأزمة التي غرق فيها حزب طالما حظي باحترام المغاربة، قبل أن تتمزق أشرعته بأيدي أبنائه، ما جعل عددا من المتتبعين يتساءلون عما إذا كان تحول تيار الزايدي لحزب سيكون إيذانا صريحا بغرق سفينة الاتحاد. التفاعلات داخل الحزب، وفي محيطه، تشير إلى أن قرارات الطرد التي طالت أعضاء تيار الزايدي (الانفتاح والديمقراطية)، لم ولن تكون الأخيرة، بعد أن تأكد منذ المؤتمر الأخير وما تلاه من صراعات، أن الأزمة أعمق، وأن المشكل الكبير يكمن في عدم اعتراف الكاتب الأول بها، تمهيدا لإيجاد أرضية مناسبة للحل، ليصبح رأس كل من يمارس المعارضة والنقد داخل الحزب مطلوبا، وسيف التأديب وتجميد العضوية، أو الطرد، مشهرا في وجهه من خلال عبارات وتهم جاهزة. فالحزب عاش وعلى امتداد سنتين صراعا فشلت جميع النوايا الحسنة في رأب صدعه، ليتسع يوما بعد يوم، قبل أن يتضح أن الانشقاق، وتأسيس حزب جديد، هو خيار لا مفر منه بالنسبة لعدد من الأسماء الاتحادية التي بررت هذه الخطوة بالنزعة التحكمية التي أصبح الحزب يسير بها، والانفراد باتخاذ القرارات، وعدم وضوح الرؤية، وتقبل الاختلاف. في مقابل هده النظرة السوداوية، اجتهد الجانب الآخر في التسويق بأن الحزب الذي تآكلت شعبيته منذ حكومة التناوب، قبل أن يفرط فيما تبقى منها بعد غرقه في الصراعات الداخلية، بأنه مستقر، وأنه يعيش دينامية وإشعاعا كبيرين، وأن الأزمة لا توجد إلا في «رؤوس من اعتادوا السخرة». هذا الخطاب يؤكد أن أزمة الاتحاد دخلت مرحلة جد حرجة لن يكون علاجها سهلا أو قريبا، مادامت أول خطة لحل المشكل هي الاعتراف بوجوده، عوض الترويج لصورة تزيف الواقع، ولخطاب ينكر الطرف الآخر، وهو ما يؤكد ما قاله عدد من الاتحاديين الذين فضلوا الانسحاب منذ وصول إدرس لشكر إلى دفة القيادة، بأن نهجه السلطوي في تدبير شؤونه عمق جراح حزب الوردة الذي اختنقت فيه النخب، وأصبح عقيما وعاجزا عن إنتاج زعامات حقيقية.