بعد هجمات باريس التي تمت شهر يناير المنصرم، ظهرت التساؤلات حول الكيفية التي تتمكن من خلالها التنظيمات الإرهابية من توظيف الشبكة العنكبوتية لنشر مقاطع الفيديو التي تشيد بالإرهاب، دون أن تتمكن المصالح الأمنية دائما من اعتقال الأشخاص الذين يقفون وراء نشر تلك الفيديوهات. يوم الثلاثاء 3 فبراير، ظهر على شبكة الأنترنيت شريط فيديو يحمل عنوان «فجروا فرنسا». بدا في الشريط رجال احتشدوا أمام شاحنة، حاملين على أكتافهم بنادق وقاذفات صواريخ، ويدعون باللغة الفرنسية إلى تنفيذ عمليات إرهابية بالبلاد. «فجروا رؤوسهم، سواء عبر قذفهم بالحجارة، أو أي شيء آخر إن تعذر عليكم الحصول على مسدس»، يقول رجل من خلف قناعه، كان واقفا وحاملا للسلاح. يظهر هذا الشريط على أنه الجزء الثاني من شريط سابق، نشر في أكتوبر 2014، يحث من خلاله رجل يحمل على ما يبدو الجنسية الفرنسية، ويبلغ عمره قرابة 25 عاما عفا أطلق لحيته، مسلمي فرنسا على «الاحتذاء بالأخ محمد مراح»، دون أن يخفي ملامح وجهه. مثل سائر شرائط الفيديو التي تبثها التنظيمات الجهادية، فإن شريط «فجروا فرنسا» لم يظهر بالصدفة على الشبكة العنكبوتية. على نقيض ذلك، فقد تم نشره بالاعتماد على منهجية موثوق من فعاليتها، قام مقاتلو الدولة الإسلامية «داعش» بتحسينها مع مرور الوقت. يتم في البداية تحميل شرائط الفيديو، سواء كانت محمية بكلمة مرور أم لا، على الحاسوب المركزي الذي يؤمن الخدمة لباقي أجهزة الشبكة، وتكون متاحة لجميع المستعملين. وقبل مرور ساعة على بثها، يتم نشر روابط التحميل، التي تكون ما تزال مفعلة لكنها محجوبة عن الأنظار، على المنتديات الجهادية (تعرف حراسة مشددة)، وبعض الحسابات على موقع «تويتر» المخصصة للبروباغندا. يتم حذف هاته الحسابات بسرعة من موقع «تويتر» بعد وصول التنبيهات حولها، بيد أن المتعاطفين يتمكنون، من خلال كلمة مفتاح معروفة بشكل مسبق، من العثور على الحسابات الجديدة بدون بذل جهد كبير… الغاية من وراء هاته المنهجية، هي تمكين عدد كبير من المقاتلين من الحصول على الملف الأصلي دون لفت انتباه السلطات، وتمكينهم فيما بعد من تحميله على منصات النشر الكبرى مثل «يوتيوب» و»دايليموشن». أنظمة التتبع منذ عام، تزايد عدد شرائط الفيديو التي تبث بروباغندا «داعش». تظهر تلك الشرائط بكل اللغات، وتدعو إلى تنفيذ الهجمات، وتبرز عمليات إعدام الأسرى وتدعو المشاهد إلى الانضمام إلى الجماعات المسلحة، التي يتم تصويرها على أنها تنظيمات أخوية تكافح من أجل نصرة قضية عادلة… ويقوم التنظيم كذلك ببث ربورتاجات مصطنعة باللغة الإنجليزية، يتم تصويرها بطريقة احترافية، وتبرز حياة وردية داخل المدن التي «حررها» التنظيم. داخل فرنسا، يعد نشر هاته الفيديوهات، التي تعد الأداة المحورية التي تعتمد عليها الدولة الإسلامية في الاستقطاب والتجنيد، عملا مخالفا للقانون. ويمكن أن يتسبب ذلك في أداء المواقع التي تستضيف تلك الفيديوهات غرامات ثقيلة، إذ يتعين عليها حذف جميع الفيديوهات التي تحث على الكراهية أو تبرر تنفيذ العمليات الإرهابية. ومنذ الهجمات التي هزت فرنسا في يناير، أصبحت الحكومة توجه أصابع الاتهام بشكل متواصل إلى مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات نشر مقاطع الفيديو، التي تتهمها بالتراخي في ممارسة مهامها. «نحن لم ننتظر حتى ظهرت داعش من أجل وضع آليات الرقابة»، يقول بانزعاج غوسيبي دي مارتينو، الكاتب العام لموقع دايليموشن. وقد قام العملاق الفرنسي في مجال الفيديوهات على الأنترنيت، منذ عدة سنوات، بوضع خدمة للتتبع، تشتغل بالأساس بناء على التنبيهات التي تصل من مستخدمي الشبكة العنكبوتية. وعلى امتداد 24 ساعة كل يوم، يعالج المسؤولون عن متابعة المحتوى التنبيهات التي تصل، وفي حال الإخلال بالضوابط القانونية أو القواعد التي تتبعها الشركة، يتم حذف التعليقات والفيديوهات، وحجب بعض المستخدمين. «تحثنا القوانين على اتخاذ قراراتنا بناء على معيار واحد هو الطابع «المحظور بشكل بارز» لمحتوى معين، بيد أن القاضي هو الوحيد القادر على قول الحق، والحالة هاته نطلب من فرقنا التصرف «كأب مسؤول أو أم مسؤولة»، مع الالتزام بسلوك جيد». توجد أنظمة مماثلة للتتبع، تقوم بحذف فيديوهات الجهاديين التي يتم التبليغ عنها، لدى كذلك كل من «يوتيوب» و»فيسبوك». غير أن ذلك لا يلغي أحيانا حدوث بعض الهفوات؛ ففي منتصف شهر يناير ترك «فيسبوك» على موقعه شريط فيديو يدعو إلى تنفيذ هجمات بفرنسا، تمت مشاهدته لأكثر من 1.5 مليون مرة، تحت ذريعة أن الشخص الذي قام بنشره شجب محتواه. وتتذمر الجمعيات ومستخدمي الأنترنيت على حد سواء من الفارق الزمني الطويل بين التبليغ عن شريط فيديو وعملية حذفه. قامت صحيفة «لوموند» بإنجاز مجموعة من الاختبارات الخاصة في هذا الصدد، وذلك من خلال التبليغ عن الفيديوهات المسخرة للبروباغندا الجهادية، تضم بعض منها صورا عنيفة جدا. وقد تم حذف الفيديوهات من موقعي «دايليموشن» و»يوتيوب» في أجل تراوح بين بضع دقائق وبضع ساعات. قمنا كذلك بالتبليغ عن إحدى تلك الفيديوهات لمنصة «فاروس» التي تقوم بالتبليغ عن المحتويات غير القانونية، وقد تم حذف شريط الفيديو في أقل من ربع ساعة. وقبل حدوث هجمات باريس في يناير، كانت عمليات الحذف تلك نادرة، وحسب تقرير الشفافية الخاص بغوغل، الذي يتم نشره على رأس كل ستة أشهر، تم حذف أحد عشر شريط فيديو فقط من موقع «يوتيوب» بناء على طلب السلطات خلال الستة أشهر الأخيرة من العام 2014. وعرف «فاروس»، الذي يديره المكتب المركزي لمكافحة العمليات الإجرامية المرتبطة بتكنولوجيا الاتصال والتواصل، ارتفاعا كبيرا في وتيرة التبليغ عن المحتوى بعد هجمات باريس، وهو ما تسبب في تأخر عمليات المعالجة. ورغم رفعها لعدد الموظفين، فإن المنصة اضطرت للحسم في المهام التي ستقوم بها، وفضلت منح الأولوية لإنجاز تحقيقات حول الهجمات، والفيديوهات التي تحث على الإرهاب، فيما تم وضع الفيديوهات الأخرى المتعلقة بالبروباغندا جانبا لتتم معالجتها في وقت لاحق. وعلى نقيض منصات الشبكة العنكبوتية، لا تكتفي منصة «فاروس» بعملية حذف الفيديوهات؛ إذ يتعين على المحققين المشتغلين بالمنصة، الذين يصل عددهم إلى 14 من بين 80 دركيا يعملون لصالح المكتب المركزي لمكافحة العمليات الإجرامية المرتبطة بتكنولوجيا الاتصال والتواصل، الشروع في إجراء سلسلة من المحاضر، لكي يتمكنوا في نهاية المطاف من الشروع في خوض متابعة قضائية. لعبة القط والفأر يسهل للغاية تحديد هوية الأشخاص الذين يقومون بنشر فيديوهات الجهاديين، في حال عدم اتخاذهم لأية احتياطات. ويسمح موقع «يوتيوب»، كما هو الحال بالنسبة ل»دايليموشن»، بوضع صور على الشبكة العنكبوتية تحت اسم مستعار، بيد أن الشركات تقوم بتسجيل عنوان برتوكول الانترنيت للجهاز المستخدم، وهو العنوان الذي يسهل بشكل كبير القيام بإخفائه. إلا أنه في حال عدم القيام بذلك يمكن تحديد هوية المستخدم من دون بذل جهد كبير. هنالك منهجيات أخرى تقوم إحداها على سبيل المثال بخلق رابط بين عدة فيديوهات، قد تفضي رغم كل شيء إلى الوصول إلى مصدرها، حتى وإن كانت هاته العملية أطول بكثير ومرتبطة بعامل الصدفة بشكل أكبر. وفي الواقع، فإن نشر الفيديوهات الجهادية على كبريات مواقع الأنترنيت يصب في خانة لعبة القط والفأر، حيث تعمد «الأيادي الصغيرة» (سواء المتعاطفين مع الجهاديين أو مستعملي الأنترنيت يحاولون إصابة الآخرين بالصدمة) إلى وضع نفس الفيديوهات على الشبكة العنكبوتية، التي يتم حذفها في الغالب قبل أن تصل إلى عتبة ألف مشاهدة. «الإرهابيون الحقيقيون يلجؤون إلى الحمام الزاجل لنقل الرسائل بدل اللجوء إلى كبريات المنصات؛ فقد أدركوا جيدا ومنذ وقت بعيد بأن الشبكة العنكبوتية ليست مكانا لا تسود فيه القوانين وبأنه يسهل تحديد هويتهم، حسب ما يرى غوسيبي دي مارتينو. المشكل الوحيد يكمن في مستوى التعاون الدولي بين مختلف القوى الأمنية حتى يسهل الوصول إلى شخص يوجد خارج بلد معين». في أغلب الحالات، لا يتم نشر الفيديوهات انطلاقا من الأراضي الفرنسية. ومن الناحية العملية، فإن تحديد هوية الأشخاص الذين يقومون بنشر مقاطع الفيديو تلك يظل عملا يتطلب جهدا كبيرا ويستدعي تدخل قوات الشرطة، والشركات التي تزود خدمة الأنترنيت، والشركات التي تعمل في قطاع الأنترنيت داخل عدة بلدان؛ وهذا جانب آخر تحصل فيه الفئران على الامتياز، على الأقل على المدى القصير. وفي انتظار معالجة هذا الأمر، فإن مكافحة انتشار هاته الفيديوهات تتركز في الوقت الراهن على القيام بحذفها. ويود وزير الداخلية الفرنسي، بيرنار كازنوف، القيام بالمزيد، فقبل توجهه إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، يوم 19 فبراير، قال إنه ينبغي «تحسيس» الشركات الأمريكية العملاقة العاملة في قطاع الأنترنيت حول المقاربة التي تعتمدها فرنسا في التعاطي مع المحتويات التي تحث على الكراهية. بيد أن مستوى التعاون بين القوات الأمنية (وبالأخص «فاروس») والفروع الفرنسية لعمالقة شبكة الأنترنيت يظل جيدا، حسب شهادات الفاعلين في القطاع. وفي إطار الجهود للتصدي لنشر الصور الإباحية للأطفال القاصرين، التي تثير الكثير من القلاقل الشبيهة بالتصدي للفيديوهات الجهادية، تربط اتفاقية شراكة بين «فاروس»، والشركات العاملة في قطاع الشبكة العنكبوتية، وكذا جمعية الشركات التي توفر شبكة وخدمات الأنترنيت، يتم من خلالها التعاطي مع التنبيهات. بداية شهر فبراير، وأثناء تقديم التقرير السنوي حول هاته الآلية، الذي يحمل عنوان «نقط التماس»، أثنت فاليري مالدونادو، رئيسة المكتب المركزي لمكافحة العمليات الإجرامية المرتبطة بتكنولوجيا الاتصال والتواصل، على العمل الذي يقوم به «الشركاء من القطاع الخاص، الذين يلتزمون بالمسؤولية بشكل مثالي»، وأعربت دلفين راير، المسؤولة عن الشؤون العامة داخل فرع «فيسبوك» بأوروبا الجنوبية وفرنسا، عن رغبتها «في الرفع من فعالية هذا النموذج (لمكافحة نشر الصور الإباحية للأطفال القاصرين)، الذي أثبت نجاعته، في الوقت الذي تطرح فيه تساؤلات حول التحديات التي طرحتها هجمات باريس الدامية». ومن الوارد جدا أن يتم التنصيص على خلق «فضاء للنقاش» يجمع بين الفاعلين من القطاعين الخاص والعام للخوض في المسائل المتعلقة بالتحريض على الإرهاب ضمن مشروع قانون فرنسي جديد حول الفضاء الرقمي، يتوقع أن يتم الانتهاء من صياغته متم السنة الحالية. ويظل نشر البروباغندا والإشادة بالإرهاب أكثر فعالية بالنسبة لمن يقومون بذلك اعتمادا على المنصات ذات الصيت المحلي المحدود، أو التي لا تخضع لرقابة قوية؛ فموقع Archive.org، الذي يهدف إلى أرشفة أكبر كمية ممكنة من محتوى الأنترنيت، يمكن على سبيل المثال من نشر فيديوهات بسرعة وتنعدم فيه بشكل كلي عملية التتبع. ونتيجة لذلك، بدأت منذ العام 2011 تلجأ إليه جماعات إرهابية مختلفة من أجل نشر فيديوهاتها الدعوية. وحتى على هاته المنصات، حيث يتم استخدام خدمات التحميل المباشر، فإن إخفاء الهوية يظل أمرا غير مضمون، لاسيما أن فيديوهات الجهاديين لا تدقق في محتواها القوات الأمنية الفرنسية لوحدها فقط. نهاية شهر يناير، أوضحت وثائق سربها إدوارد سنودن ونشرتها القناة الكندية «سي بي إس» أن أجهزة الاستخبارات الكندية وظفت منذ عدة سنوات نظاما موسعا للترصد تحوم الأقاويل حول مدى شرعيته، من أجل مراقبة عمليات التحميل. هذا البرنامج الذي تحيط به سرية شديدة، ويشتغل في ظل تعاون وثيق مع وكالة الأمن القومي الأمريكية وجهاز الاستخبارات الإلكترونية البريطاني، مكن في العديد من المناسبات من تحديد هوية الأشخاص الذين يقومون بوضع وتحميل الفيديوهات الجهادية، حسب ما أكدته المخابرات الكندية. لعبة القط والفأر هاته لا ينبغي أن تجعلنا نغفل بأن محققي أجهزة الاستخبارات يلجؤون، وبطريقة سرية جدا، إلى استخدام الصور التي يضعها الجهاديون على الشبكة العنكبوتية. ويظل الوصول إلى الأشخاص «الحقيقيين» الذين يقفون وراء تلك الفيديوهات مهمة معقدة جدا، لكن شرائط الفيديو في حد ذاتها توفر مؤشرات ثمينة جدا؛ مثل موقع التصوير، والأشخاص الذين يظهرون فيها، والأسلحة التي بين أيديهم… وفي نونبر 2014، تم تحديد هوية شابين يتحدران من فرنسا شاركا في عملية إعدام أسرى بسوريا. وفي غشت، تمكن موقع التحقيقات التشاركية Bellingcat من تحديد موقع معسكر للتدريب سري تابع لتنظيم الدولة الإسلامية، وذلك من خلال تحليل الصور التي ظهرت في فيديو خاص بالبرو باغندا. * عن «لوموند»