الصفحة البيضاءُ الخالية: امرأةٌ عارية.. جسدٌ محايد ونظرات باردة حدَّ الاستفزاز. وأنتَ، ممسكاً بالقلم تبغي أن تملأ به مساحات البياض القاسي، تبدو في حالات عديدة. أحيانا، تظلّ شارداً تطارد مطالعَ الأفكار.. كأبلهَ تبدو، أحياناً أخرى، فاغراً فاك، عاجزاً عن رسمِ البدايات لملامحِ حكايةٍ لا تريد الاختمارَ أبداً كما تشتهيها في خيالك، رغم جموحه ومهما يبْلُغ من درجات الغوص بحثاً عن هذه البدايات.. وفي لحظات، قد تبدو أمام الصفحة كأنك من «فطاحلة» أزمنة الأدب الغابرة.. الكتابة «شيطان» في شكل امرأة تُغوي فتصُدّ، تُبهِِر فتَهْجُر.. نقاشات وجدالات بآفاقٍ أرحبَ تحتدم ما بيننا بين حين وآخر.. ولأننا كنا طلبةَ آداب، يحدث أن تجرّنا أحاديثُنا، في مناسبات كثيرة، إلى استعراض بعض الأدباء الذين أثّروا فينا خلال فترات ابتلائنا ب«داء» المطالعة.. أسماء كثيرة و«كبيرة» ارتسمت ملامحُهم الأدبية وتياراتُهم الفكريةُ في مخيّلاتنا.. على أن دراسة الآداب أضحت تعني الالتفاتَ إلى امتلاك مناهجَ وأدواتٍ تحليليةًٍ ل«قراءة» نص من النصوص. شكلانية، بنيوية، ما بعد بنيوية، تفكيكية، جماليات تلقٍ ولست أدري أي تسميات وأوصاف! كل «مدرسة» تحلل النص و«تقرؤه» من زاوية نظر منظريها الأوائل الذين يشكّلون “علاماتٍ فارقةً” من منظور مناصري كل نظرية أو تيار على حِدَة.. ونحن، طلبةَ الآداب المساكينَ، علينا فقط أن نحفظ ونستوعب. وحتى إذا ظللنا، في حالات كثيرة، عاجزين عن بلوغ مستويات الاستيعاب، فلم يكن مسموحا لنا بأن نعجز على الأقل على «الحفظ»، فقد يفي لوحده، في كثير من الحالات بالغرض.. والحفظ في الكلية يعني القدرةَ على تذكّر كمٍّ هائل من المعلومات المتصارعة تتجاذب أمخاخَنا المطالَبة ب«تسجيل»، «تخزين» و«حفظ» كل «درس» وركنِه بعناية في أحد أدراج الذاكرة المثْقَلة، حتى إذا لاحتْ الاختباراتُ في الأفق، نجدها حيث «حفّظناها» تنتظر أن نستحضرها ونملأ بها فراغات الأوراق القاسية والصارمة التي كانوا يضعونها أمامنا ليقيسوا درجاتِ استيعابنا لدروسهم وتنظيراتهم... في أحاديثنا وجدالاتنا حول «المدارس» و«التيارات» التي طبعت الساحةَ الأدبية، العربية والعالمية، كانت إحدى الطالبات كلما عرّجنا على الموضوع تذكِّرنا- وهي تحاول أن تضع حدا لأحلامنا واستيهاماتنا المنطلقة- بأن «عصرَ الأدب قد انتهى وبأن زمن الإبداع قد ولى إلى غير رجعة».. في اعتقادها ليس هناك مجال لأن تنتج منظومتنا التعليمية أديبا بالمعنى الحقيقي! وتبعاً لذلك فما علينا إلا أن نستسلم للأمر الواقع ولا يشطحَ بنا خيالُنا إلى أبعدَ من دائرة «حفظ» الدروس إلى حين حلول الامتحانات وتجشّؤ ما حفظناه على الأوراق أمامنا ومغادرة القاعات في انتظار النتائج.. يتبع...